• الموقع : مركز اهل البيت في لندن - سري .
        • القسم الرئيسي : بحوث علمية .
              • القسم الفرعي : البحوث الأصولیة .
                    • الموضوع : موقف الفقهاء تجاه قاعدة نفي الضرر .

موقف الفقهاء تجاه قاعدة نفي الضرر

تُعتبر هذه القاعدة من أهمِّ القواعد الأساسية الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي في الدين الإسلامي الحنيف، ومن أبرز الركائز الفقهية المعروفة بين فقهاء المسلمين كافة، وهي من أشهر القواعد الفقهية التي استُدِل بها في معظم أبواب الفقه، وأغلب مسائله; بل هي المستند الوحيد لكثير من الفروع، وبعض المسائل المستحدثة، وقد أعرض أغلب الفقهاء عن التطرّق لسندها، والتأمل فيه; لتواترها ولو إجمالاً.
هذا مضافاً الى اعتماد المشهور من الفقهاء المتقدمين عليها، واستنادهم اليها، مما استوجب حصول الوثوق والاطمئنان بصدورها عن المعصوم(عليه السلام)، فعليه لا مجال للخدشة بها من جهة أسانيدها، وإن كان السند الى بعض النصوص صحيحاً والبعض الآخر موثقاً.
وقد إشتهر عن فخر المحققين (682 ـ 771هـ ). أنّه إدّعى تواتر حديث نفي الضرر، قال في كتابه (إيضاح الفوائد) : (والضرر منفيٌّ بالحديث المتواتر) وهذه الدعوى من الفخر وإنْ قوبلت بالتشكيك ـ إذ أنّ بعض الفقهاء نفى حصول التواتر، سواءً اُريد به التواتر اللفظيّ أو المعنويّ، ومن أثبته حمله على التواتر الإجمالي بمعنى القطع بصدور بعض المرويِّ ـ إلاّ أنّ موقعية فخر المحققين التاريخية، وقربه من عصر القدماء أعطى تلك الدعوى نوعاً من الوثوق; لاحتمال وقوفه على مالم نقف عليه من الأحاديث الواردة في نفي الضرر، لذا أصبحت تلك الدعوى مورد عناية أغلب الفقهاء والاُصوليين من متأخري المتأخرين.
ويرى أبو القاسم نجم الدين، المحقّق الحلّي (603 ـ 676) ـ في كتابه نكت النهاية ـ  : أنّه ليس كلّ ضرر بمنفي إلاّ مع سلامته عن وجوب التحمل، فتضرر الزوجة بسبب عدم إنفاق زوجها لإعساره يجب تحمله وذلك :
لقوله تعالى : (وإن كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة).
ولما روي من (أنّ امرأة استعدت على زوجها عند علي(عليه السلام)، وذكرت أنّه لا يُنفق عليها، فأبى أنْ يحبسه، وقال : إنّ مع العسر يسراً).
والحاصل : أنَّ المحقق الحلي(قدس سره) استدلّ بالآية والرواية على عدم إطلاق نفي الضرر لوجوب تحمله في بعض الموارد.
ويتضح لنا الدور الكبير لهذه القاعدة في الفقه الاسلامي من خلال الوقوف على كيفيّة معاملة الشهيد الأوّل الإمام أبي عبد  اللّه محمد بن مكّي العاملي (734  ـ  786هـ ). معها في كتابه القواعد والفوائد حيث جعلها من جملة القواعد الخمس التي ذهب(قدس سره) الى إمكان ردِّ الأحكام الشرعية اليها.
وبعد أن ذكرها ضمن القواعد الخمس قال : وفروعها (أي : فروع قاعدة نفي الضرر) كثيرة حتى أنّ القاعدة الثانية تكاد تُداخل هذه القاعدة.
ويرى(قدس سره) أنّ حاصل مدلولها : أنّها ترجع الى تحصيل المنافع، أو تقريرها لدفع المفاسد، أو إحتمال أخفّ المفسدتين.
وقد ذكر نيفاً وعشرين فرعاً للقاعدة ـ في مختلف أبواب الفقه ـ فيما يرتبط بتقرير المنافع لدفع المفاسد، كما ذكر لها بضعة فروع فيما يرتبط باحتمال أخفّ المفسدتين.
وفي نهاية المطاف عقد فصلاً لبيان الموارد التي يتخيّر فيها المكلّف باختيار أحد الضررين عند تساويهما، وبيان الموارد التي يقدّم فيها أحد الضررين المتساويين باعتبار مرجّحات داخلية أو خارجية.
ومن الملاحظ : أنّ الشهيد الأول لم يذكر ـ خلال تعرضه للقاعدة ـ ولو على نحو الإشارة شيئاً من الروايات الواردة في حديث نفي الضرر، نعم في موضع آخر تعرّض الى أنّها ـ ضمن القواعد الخمسة التي ذكرها ـ مستنبطة من مدارك الأحكام الأربعة (الكتاب، السنة، الإجماع، دليل العقل)، كما أنّه إستدل لقاعدة (المشقة موجبة لليسر) بقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : (لا ضرر ولا ضِرار).
ويعود السبب في تركه ذكر أحاديث القاعدة الى شهرتها، وكثرة الإستدلال بها، مما يُغني عن ذكرها، خصوصاً مع ملاحظة أنّ مبنى الشهيد على الإختصار كما يستفاد من إجازة ابن الخازن.
واعتبر العلامة شيخ الإسلام محمد باقر المجلسي (1037 ـ 1110هـ ).حديث نفي الضرر أصلاً من الاُصول فقال ـ في بحار الأنوار ـ : لهذا الأصل ـ أي نفيّ الضرر ـ شواهد كثيرةٌ من الأخبار مذكورة في مواضعها، وقد أورد كثيراً منها الكلينيُّ في باب مفرد.
وقال(قدس سره) في مرآة العقول : إنّ مضمون قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : (لا ضرر ولا ضِرار) مرويّ من طرق الخاصة والعامة بأسانيد كثيرة فصار أصلاً من الاُصول وبه يستدلون في كثير من الأحكام.
وأمّا الفاضل التوني (المتوفى 1071) فقد حاز قَصَبَ السَبْق في إبراز قاعدة نفي الضرر في الأبحاث الاُصوليّة، وذلك عندما اعتبر عدم تحقق الضرر شرطاً للتمسك بأصالة براءة الذّمّة، وبأصالة العدم، وبأصالة عدم تقدّم الحادث.
وفي نهاية كلامه المُقتَضَب حول حديث نفي الضرر استظهر ـ بعد الإشارة الى تعذر الحمل على نفي الحقيقة ـ أنّ المراد من الهيئة التركيبية له هو : نفي الضرر من غير جبران حسَبَ الشرع.
ويرى المولى محمد باقر السبزواري (المتوفى ـ 1090) في كفاية الأحكام على ما حكاه عنه صاحب الجواهر: أنّ حديث نفي الضرر حديث معمول به بين الخاصة والعامة، ومستفيضٌ بينهم.
وقال الميرزا أبو القاسم القميّ الجيلاني (المتوفى ـ 1232) : إنّ نفي الضرر من الأدلة الشرعية المجمع عليها.
ويرى(قدس سره) أنّه قد تداول العلماء الإستدلال بنفي العسر والحرج ونفي الضرر في الموارد الكثيرة غاية الكثرة سواء كان الضرر والحرج من جانب اللّه أو من جانب العبد.
وقد ذكر(قدس سره) ثلاث معاني للحديث :
الأوّل : أن يكون المراد منه النهي.
الثاني : أن يكون المراد منه نفي الضرر الخالي عن الجبران.
الثالث : أن يكون المراد منه أنَّ اللّه تعالى لم يرض لعباده بضرر لا من جانبه ولا من جانب بعضهم لبعض.
واختار المعنى الثالث ـ بعد أن ناقش المعنيين الأوليين وردهما ـ مدعياً بأن هذا المعنى هو الأظهر بالنسبة الى الرواية، وبالنسبة الى العقل وعمل الأصحاب.
وقد شرح المحقق القمّي هذه القاعدة وبيّن بعض مقاصدها، مصرحاً بأنّ كلام العلماء خال عن بيانه، ولم يقف في مقالاتهم على شيء يوضّح هذا المقصد، مع أنّه في غاية الإجمال ونهاية الإشكال.
وقال المولى أحمد النراقي (المتوفى 1245هـ ). قد شاع إستدلال الفقهاء في كثير من المسائل الفقهية بنفي الضرر والضِرار، وقد عقد للبحث عنها والتحقيق فيها أحد عشر بحثاً، ذكر في الأوّل منها الأخبار الواردة في ذلك المضمار، والتي وصفها بأنّها كثيرة، ولم يذكر منها سوى أحد عشر رواية.
وفي البحث الخامس قال : قد ظهر مما ذكر أنّ نفي الضرر والضِرار في الاحكام الشرعية من الاُصول والقواعد الثابتة بالأخبار المستفيضة المعتضدة بعمل الأصحاب الموافقة للإعتبارات المناسبة للملّة السمحة السهلة المعاضدة بنفي الحرج والعسر والمشقة، كما ورد في الكتاب والسنة.
ثمَّ ذهب الى أنَّ حديث نفي الضرر أصلٌ من الاُصول كسائر القواعد والاُصول الممهدة، ودليل شرعي يُستدل به في موارد فإنْ لم يكن له معارض فالأمر واضح، وإنْ كان بأنْ يدل دليل آخر على ثبوت حكم شرعي يلزمه ضرر فيعمل فيهما بمقتضى التعارض والترجيح.
وقد أكثر الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر (المتوفى ـ 1266) من الإستدلال بقاعدة نفي الضرر في كتابه جواهر الكلام وذلك في فروع كثيرة وأبواب متعددة معبراً عنها بأنّها قاعدة عامةً مستفيضة.
والظاهر منه : اختيار أنّ المراد من هيئتها التركيبية النهي عن الضرر والضِرار، فلا يمكن استفادة الضمان من القاعدة إذ لا اقتضاء لها إلاّ عدم مشروعيّة ما فيه الضرر والضِرار في الإسلام على معنى النهي عن إيجاده، وهو إنّما يقتضي حرمة ذلك لا الجبر بالضمان.
وقد علّل(قدس سره) استفادة النهي من الحديث بأنّه أقرب المجازات الى نفي الضرر، بل ذهب الى إمكان دعوى إرادة ذلك حقيقة من النفي بلا تجوّز.
ويرى(قدس سره) حكومة قاعدة نفي الضرر على قاعدة السلطنة، قال : إنَّ المنساق من العامين المزبورين (أي : نفي الضرر والسلطنة) تحكيم قاعدة نفي الضرر، كما في جميع نظائره، وإنْ كان بينهما تعارض العموم من وجه.
وقد عبّر السيد مير فتاح المراغي (المتوفى ـ 1274هـ ). في كتابه عناوين الاُصول عن القاعدة بأنّها من جملة الاُصول المتلقاة من الشريعة، ومن القواعد الكثيرة الدوران العامة النفع ثم قال : (ويبتني عليها كثير من الفروع في الفقه).
وقد عدَّ العسر والحرج من موارد قاعدة نفي الضرر، فإن كلّ ما فيه عسر وحرج فهو داخل في معنى الضرر، مدعياً أنَّ الأصحاب صرحوا بذلك في طائفة من الموارد، ثم قال مستدركاً : (إلاّ أنّ العسر ونحوه إنّما يتحقق غالباً من حيث الحكم التكليفي، والضرر أعمّ منه ومن الوضعي).
ثمّ أدرج تحت هذه القاعدة فروعاً كثيرة في مختلف أبواب الفقه من المعاملات، ويرى أنّه بعد التأمّل فيما ذكره من الفروع يظهر أنّ أصحابنا فاهمين عدم الضرر بما يشمل ذلك كلّه مصرحاً بأنّ تنقيح هذا المطلب من جملة المشكلات.
وقد قدّمها الشيخ الأنصاريّ (1214 ـ 1281هـ ). على سائر أدلّة العناوين المثبتة.
قال في فرائد الاُصول : (ثمّ إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرريّ، كأدلّة لزوم العقود، وسلطنة الناس على أموالهم، ووجوب الوضوء على واجد الماء، وحرمة الترافع الى حُكّام الجور، وغير ذلك.
وقد استدل(قدس سره) على حكومتها على غيرها من العمومات بوقوعها في مقام الامتنان.
وأعرض(قدس سره) في رسالته الخاصة بهذه القاعدة عن النظر في سند الأحاديث الواردة في نفي الضرر معلّلاً ذلك بأنّ كثرتها يغني عن ملاحظة سندها.
وقد ذهب المحقق الخراساني (المتوفي ـ 1329هـ ). في كفاية الاُصول الى أنّ الرّوايات الواردة في نفي الضرر كثيرة، وبعد تصحيح دعوى تواترها بحمله على التواتر الإجمالي قال : (وهذا مع إستناد المشهور اليها، موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها، مع أنّ بعضها موثقة فلا مجال للإشكال فيها من جهة سندها، كما لا يخفى).
ويرى الشيخ ضياء الدين العراقي (1278 ـ 1361هـ ). ـ محاضر هذه القاعدة  ـ أنّها قد اشتهرت على ألسُن الفقهاء، وقد تمسّكوا بها في كثير من الموارد حتى صارت بين المعاصرين من القواعد الفقهية المسلّمة.
وأمّا فقهاء العامة فقد بلغت عنايتُهم بهذه القاعدة مبلغاً جعلت أباطاهر الدَّبّاس (من فقهاء القرن الرابع الهجري) يُرْجع جميع فقه أبي حنيفة الى سبع عشرة قاعدة كلّية، من جملتها قاعدة الضرر يزال.
كما أرجع الفقيه الشافعيُّ القاضي حسين جميع المذهب الى أربع قواعد منها قاعدة نفي الضرر.
وقد اعتبرها أبو الفتوح الطائي من الأحاديث الخمسة التي يعتمد عليها الفقيه.
وقد ذهب السيوطيُّ (المتوفى (911) هـ ). الى أنَّ قاعدة نفي الضرر يبتنى عليها كثير من أبواب الفقه، وبعد أن مثّل لذلك بشواهد كثيرة قال : ويتعلّق بهذه القاعدة قواعد : الاُولى : الضرورات تبيح المحضورات بشرط عدم نقصانها عنها...
وبعد هذه النظرات السريعة التي القيناها على موقف الفقهاء من هذه القاعدة يتضح لنا أنّ فقهاء الاسلام تلقوا هذه القاعدة بإعتبارها أحد دعائم الفقه الاسلامي وركائزه.
لكن وقع النقضُ والإبرام والهدم والإحكام في مفادها والمراد من الهيئة التركيبية لها، كما وقع البحثُ حول جريانها في أكثر الفروع وعدمه، فجعلها بعضُهم مدركاً لأغلب الفروع، كما هو المُشاهد من بعض كتبهم، وآخرون أبطلوا الاعتماد عليها في خصوص الفروع التي لا يوجد لها مدرك غيرها، وهناك من جعلها مقتصرةً على الأحكام الوجودية دون العدمية، وهناك من جعلها أعمَّ من ذلك.
كما ذهب بعضهم الى أنّها حكم قضائي يختص بباب القضاء ولا يتعدى الى سائر أبواب الفقه.
وغير ذلك من الأبحاث الكثيرة التي جرت عادة الأصحاب(رحمهم الله) على تناولها في هذه القاعدة بعد قبولهم كونها من أهمِّ اَركان الفقه الاسلاميِّ.

المصدر: کتاب قاعدة لاضرر و لا ضرار

 تقرير أبحاث المُحقّق الاُصُوليّ الكَبيرآية اللّه العُظمى الشيخ ضياء الدين العراقيّ(قدس سره)(1278ـ1361هـ ق)

تأليف الفقيه المحقّق آية اللّه السيّد مرتضى الموسويّ الخلخاليّ (1324 ـ اعتقل 1412هـ .ق)

تحقيق وتعليق سماحة العلامة السيد قاسم الحُسينيّ الجلالي


  • المصدر : http://www.surrey-ic.org/subject.php?id=299
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 03 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15