قَدْ يلتبسُ الأمرُ على مَنْ ضَعف لديهم التأصّل الدينيّ فلا يَعدْ يفرّق بين الاستشهادِ والانتحارِ اللّذينِ يلتقيانِ في الظاهرِ والشكلِ ويفترقانِ جذريّاً في الجوهر والمضمون حيثُ أنّ بينهما بوناً شاسعاً وفرقاً واسعاً لوضوح أنّ العمل الاستشهاديّ يستقي جذوره من الكتاب الكريم والسنّة الشريفة، وينبثق منْ دوافع إنسانيّة سامية ومن أجلِ القضايا الإسلاميّة المشروعة في أهدافها الكبرى التّي يحدّدها علماءُ الاُمّةِ الوعاةُ.
فالشهيد لا يُنهي حياته كالمنتحر، بل الشهيد يعيش حياةً جديدةً خالدةً مقدّسةً من خلال بذل نفسه في سبيل أنّ يحيى غيره أو من أجل قضيّة مقدّسة أو مشروع إنسانيّ يضمن الحريّة والكرامة وتطبيق مباديء الله تبارك وتعالى في الأرض.
وأمّا العملُ الانتحاريُّ فإنّه وليدُ حالاتٍ إنفعاليّة فرديّة أو إجتماعيّة ناشئةٍ من دوافعَ ذاتيّة من قبيل الطائفيّة والقوميّة والعرقيّة والعنصريّة وغير ذلك ممّا رفضته جميع الشرائع السماويّة.
مضافاً الى أنّ المنتحرَ تَعمّد قَتَلَ نفسِهِ فهو آثمٌ مُتَوَعَّدٌ من قِبَلِ الباري تعالى بالنارِ كما دَلّ عليه قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا}، والشهيدُ لمْ يقتلْ نفسَه وإنّما قتله أعداءُ الله تعالى، لذلك قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} و لمْ يقلْ تعالى: (الذين قتلوا أنفسهم) وهذا يُعطي حدّاً فاصلاً بين العنوانين.
مِنْ هُنا: لايمكن أنّ يُتَصَوّر عنوان (الانتحار) في حقّ (الشهيد) لأنّه انبرى مدافعاً عن حرمات الاُمّة ومقدّساتها وعن الدين والعقيدة، فقتله أعداءُ الله تعالى، على العكس من المنتحر فإنّه بفعل نفسه أقدمَ على قتل نفسه وبأمر هواه وشيطانه ، لا بأمر ربه وخالقه .
شرط التضحية بالنفس:
نستلخص ممّا تقدّم اشتراط أنْ يكون الهدف من التضحية بالنفس أمراً عظيماً يستحقّ التضحية والفداء، وكلمّا كانت الغاية سامية كانت التضحية أشرف وأكمل .
وأمّا إذا لم يكن الهدف مستحقّاً للفداء صدق على التضحية عنوان التهلكة كما نلاحظ ذلك في قضيّة قبول الإمام الرضا علیه السلام لولاية العهد حيث قبلها عندما هدّد بالقتل قائلاً: (قدْ نَهاني اللهُ تعَالىَ أنْ ألقِيَ بيدِيَ للتَهْلُكَةِ).
وأمّا إذا كان الهدف من التضحية أمراً عظيماً فتتعيّن التضحية كما فعل الأنبياءُ والصلحاءُ والشهداءُ.
نتيجةُ البحث:
وننتهي بالقول: إلى أنّ آية التهلكة لا تشمل مطلق الإقدام على الخطر ولا تحرّم التضحية بالنفس والنفيس إذا كانت لغاية أعظم وأفضل وهدف أنبل وأشرف كالذي قام بها الإمام الحسين علیه السلام بثورته الخالدة حيث توفّرت في حركته الرساليّة جميع عناصر التضحية الشريفة والفداء المقدّس.
نعمْ لقد ضحّى الإمام الحسين علیه السلام من أجل أقدس هدف ألا وهو (حفظ الدين الإسلاميّ الحنيف) الذي لولا تضحياته علیه السلام لدفن تحت ركامِ البدع ِوالتشويهات والانحرافات .
لقد بلغت الأمّة في تخلّفها إلى مرحلة فاقت جهالة الجاهليّة الأولى فقد تبدّلت المفاهيم الإسلاميّة إلى مفاهيم جاهليّة وأصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً فتحتّم على الإمام الحسين علیه السلام أنْ يقوم بواجبه أمام هذا الانحراف الخطير الذي يبدّد جهود جدّه المصطفى وأبيه المرتضى علیه السلام وما قدّما لخدمة هذا الدين الحنيف .
كما صنع الإمام أمير المؤمنين عليٌّ علیه السلام في مواقف كثيرة منها معركة أحدٍ حيث عرّض نفسه للخطر المباشر حمايةً لرسول وكما صنع في ليلة المبيت حتّى نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} فهل يعني ذلك أنّه ألقى بنفسه إلى التهلكة؟؟
ومن هنا تتّضح لنا أهميّة ثورة الإمام الحسين علیه السلام لما كانت تحمله من أهدافٍ إلهيّةٍ ساميةٍ، وقيمٍ ربّانيّةٍ عالية.
المصدر:کتاب السلم و اللاعنف في الاسلام و امتدادهما في النهضة الحسینیة تألیف سماحة السید قاسم الجلالي
|