• الموقع : مركز اهل البيت في لندن - سري .
        • القسم الرئيسي : بحوث علمية .
              • القسم الفرعي : البحوث التاریخیة .
                    • الموضوع : السلم و اللاعنف في التأريخ الإسلاميُّ في دورهِ المكيِّ .

السلم و اللاعنف في التأريخ الإسلاميُّ في دورهِ المكيِّ

 ويُعدّ المنهج السلميّ الذي سار عليه الرسول والمسلمون في مكّة (طوال ثلاثة عشر عاماً)  شاهدَ صدقٍ عمليّ على الحركة السلميّة التي نهض بها الإسلام الحنيف، فبالرّغم من أنّ الرسول تعرّض إلى أنواع الأذى كسائر أنبياء الله إلّا أنّ معاناة النبيّ كانت الأشدّ حيث تحمَّل هو وأصحابه من الأذى ما يفوق طاقة البشر حتّى قال: (مَا أُوذِي َ نَبِيٌّ ِ مِثْلَ مَا أوذيتُ ).
واستمرّت هذه المعاناة آخذةً بالتزايد والاتّساع وتضييق الخناق على المسلمين في مختلف المجالات.
وفي هذا الصدد يقول زيد بن حارثة: ما تزال قوّة مكّة بأيدي هؤلاء الطغاة المردة، ولا يرى لنا أبو القاسم (أي النبيّ) إلّا الصبر، وأنْ لا نُحدِث فيهم أمراً فإنّه مأمور بالسلم ما أمكن السلم وإلّا ما أيسر قتل أبي جهلٍ وغيره  من كبار زعماء قريش.

 مُعاناة النبيِّ وَصَبْره 
بدأ عناءُ النبيّ مع إنبثاق فجر الإسلام في بداية بعثته الشريفة حيث قابله المشركون بجميع أنواع العُنْف والإضطهاد من المقاطعة والحصار والتنكيل والتعذيب والسخريّة والاستهزاء والطعن برسالته وتكذيبه وإتهامه بالسحر والجنون ، فقاسى منهم أشدّ أنواع الابتلاءات والمحن ، ويجدر بنا ذكر صورٍ ممّا كابده المصطفى في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض:  

الحديث الأوّل: معاناة النبيّ مِنْ أبي جَهْل
 روى الحَاكِمُ النيسابُورِيُّ عَنْ ‏‏أَبي النَّضْرِ‏ ‏حدّثنا ‏ ‏شَيْبَانُ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَشْعَثَ ‏ ‏قَالَ وَحدّثني ‏ ‏شَيْخٌ ‏ ‏مِنْ ‏ ‏بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ ‏ ‏قَالَ ‏ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  ‏بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ‏ ‏يَتَخَلَّلُهَا يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا،  قَالَ ‏: ‏وَأَبُو جَهْلٍ ‏ ‏يَحْثِي ‏ ‏عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَقُولُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ فَإِنَّمَا يُرِيدُ لِتَتْرُكُوا آلِهَتَكُمْ وَلِتَتْرُكُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى قَالَ وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ .
‏قَالَ قُلْنَا: انْعَتْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ ‏قَالَ ‏: ‏بَيْنَ ‏ ‏بُرْدَيْنِ ‏ ‏أَحْمَرَيْنِ ‏ ‏مَرْبُوعٌ ‏ ‏كَثِيرُ اللَّحْمِ حَسَنُ الْوَجْهِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ أَبْيَضُ شَدِيدُ الْبَيَاضِ سَابِغُ الشَّعْر.

الحديثُ الثاني: معاناة النبيّ مِنْ  قُريشٍ
روى جَعْفرُ بن عونٍ قَالَ أخْبَرَنا سُفْيانٌ عَنْ أبِي إسْحَاق عَنْ عَمْرو بنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْد اللهِ بنِ مَسْعودٍ قَالَ: كَانَ النَبِيُّ يُصَلّي فِي ظِلِ الكَعْبَةِ فَعَمَدَ َنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلى بَقَايَا  جَزُورٍ  نُحِرَتْ  فَجَاؤوا مِنْ سَلَاهَا فَطَرَحُوُهُ عَلَيْهِ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ حَتَّى ألْقَتْهُ عَنْهُ، قَالَ: فَكَانَ يَسْتَحِبُ ثَلَاثاً يَقُولُ: ( ألَلَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ألَلَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ألَّلَهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ: بِأبِي جَهْلٍ بنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَة وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالَوَلِيد بْنِ عُتْبَةَ وَأمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعَقَبَة بْنِ أبِي مُعَيْطٍ )،  قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَلَقَدْ رَأيْتُهم قَتْلى فِي قَلِيْبِ بَدْرٍ.
 

الحديث ُالثالثُ: إيذاؤه  وخوفُهُ وَجُوعُهُ في اللهِ تعالى
رَوَى وَكِيعُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:  لَقَدْ أُوذِيَتُ فِي اللَّهِ وَ مَا يُؤْذَى أَحَدٌ ، وَ لَقَدْ اُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَ مَا يُخَافُ أَحَدٌ ، وَ لَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَالِثَةٌ مِنْ بَيْن يَوْمٍ وَ لَيْلَةٍ وَ مَالِي وَ لبِلالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا مَا وَارَاهُ إبْطُ بِلَالٍ.

الحديث الرابعُ: قريشٌ تَصدُّ الناسَ عن النبيِّ
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنِ حَجَّاجٍ عَنْ مُنْذِرٍ عَنْ ابْنِ الحنفيّة فِي قَوْلِهِ: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } قَالَ : كَانَ أَبُو جَهْلٍ وَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ يَتَلَقَّوْنَ النَّاسِ إِذَا جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ يُسْلِمُونَ ، فَيَقُولُونَ : إِنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَمْرَ وَ يُحَرِّمُ الزِّنَا وَ يُحَرِّمُ مَا كَانَتْ تَصْنَعُ الْعَرَبُ فَارْجِعُوا فَنَحْنُ نَحْمِلُ  أَوْ زَارَكُم ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ }.

الحديثُ الخامسُ: كَسْرُ رُباعِيَّتِه
 رَوَى يَزِيدُ بْنِ هَارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ شُجَّ فِي وَجْهِهِ وَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ [وهي السنّ التي بين الثنيّة والنَاب] وَ رُمِيَ رَمْيَةً عَلَى كَتِفِهِ فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَ يَقُولُ : كَيْفَ تُفْلِحُ أَمَّةٌ فَعَلَتْ هَذَا بنَِبيِّها وَ هُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ؟!  فأنْزَلَ اللهُ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }.

صورٌ مِنْ مُعاناةِ المسلمينَ الأوائل
ذاقَ المسلمونَ الأوائل الأمَرَّيْنِ مِنْ مشركي قريش، حيث نكّلوا بمَنْ أسلم أشدّ تنكيل فكانت كلّ قبيلة تَثِبُ على مَنْ فيها مِن المسلمين، فتحبسهم وتعذّبهم بالضرب والجوع والعطش، لكنّهم كانوا يتحلّون بروح عالية من المقاومة والصبر أمام هذه التحدّيات ممّا جعل المشركين يفكّرون بإسلوبٍ آخر في التعذيب تمثل بإصدار قرار مقاطعة المسلمين، فلا يزوجوّنهم ولا يتزوّجون منهم، ولا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، ولا يكلّمونهم، ولا يدخلون بيوتهم، حتّى يُسلِّموا إليهم النبيّ ليقتلوه أو يتركوا دينهم، وأقسم المشركون على هذا العهد، وكتبوه في صحيفة وعلّقوها داخل الكعبة،وأحكموا  الحصار، فاضطرّ الرسول ومن معه إلى الاحتماء في شعب أبي طالب علیه السلام حتّى ظهرت معجزة  الأرَضة التي أرسلها الله تعالى لتأكل صحيفتهم، ولم تُبْقِ إلّا اسم الله تعالى، وأوحى الله إلى نبيّه بذلك، فأطلع عمّه أبا طالب علیه السلام بما حدث للصحيفة، ولمّا أخبر أبو طالب علیه السلام قريشاً بذلك سارعوا إلى الصحيفة  فوجدوا ما قاله أبو طالبعلیه السلام صدقًا، وعلى إثر ذلك انتهت المقاطعة بعد ثلاث سنوات من الصبر، والثبات. 
ولم يكتف مشركو مكّة باضطهاد المسلمين على المستوى الجماعيّ بل أذاقوهم على المستوى الفرديّ أنواع الظلم والتعذيب وقد سجّل لنا التأريخ صوراً بشعةً من التنكيل والوحشيّة التي قابلها المسلمون بصورٍ فريدةٍ من الصمود والتحدّي في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض. 

تعذيب بلال الحبشيّ
فَكَانَ أُمَيَّةُ بْنِ خَلَفٍ يَأْتِي بِبِلَالِ الْحَبَشِيِّ (رض) إِلَى خَارِجِ مَكَّةَ ، وَ يُلْقِيهِ فِي الرَّمْضَاءِ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى تَصْهَرَهُ الشَّمْسُ بلَهِيبِها ، ثُمَّ يَجْعَلُ الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ عَلَى صَدْرِهِ ، وَ يَقُولُ : لَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى تَمُوتَ ، أَوْ تُكَفِّرُ بِمُحَمَّدٍ ، وَ تَعَبد اللات وَ الْعُزَّى ، وَ كَانَ بِلالُ(رض)  يُرَدِّدُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ : ( أَحَدٌ ، أَحَدٌ ) مُعْلِناً عَنْ إِيمَانِهِ بِاللَّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ.

تعذيب خبّاب بن الأرتّ
وَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرتّ ( رض ) عَذَّبَهُ الْكُفَّارُ أَشَدَّ الْعَذَابِ فَكَانُوا يُعَرّونَه مِنْ ثِيَابِهِ ، ثُمَّ يُلصِقونَ ظَهْرَهُ بالرَّمْضَاءِ ، ثُمَّ بِالْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ بِالنَّارِ وَ يَلْوُونَ رَأْسَهُ وَرَقَبَتَهُ ، لِيَكْفُرَ بِالرَّسُولِ ، حَتَّى تهرّأ جِلْدُهُ ، وَ لَمْ يَزِدْهُ كُلُّ ذَلِكَ إِلا إِيمَاناً وثباتاً . 
 رَوَى الشَّعْبِيِّ قَالَ : أَعْطَوْهُمْ مَا سَأَلُوا إلا خبّاباً فَجَعَلوا يَلْزِقونَ ظَهْرَهُ بِالرَضْفِ حتَّى ذَهَبَ مَا مَسَهُ.
وَ رُوِيَ أَنَّ الخَبّابَ لَمَا اشْتَدَّ أَذًى الْكُفَّارِ لَهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ وَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا تَسْتَنْصِرَ لَنَا ؟ أَلا تَدْعُو اللَّهُ لَنَا ؟ فَقَالَ: إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرَقِ رَأْسِهِ فيخلُصَ إِلَى قَدَمَيْهِ لا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَ يَمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا بَيْنَ لَحْمِهِ وَ عَظْمِهِ لا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.

تعذيب عمّار و والديه الشهيدين
كَانَ عَمَّارُ وَ أَبُوهُ يَاسِرٌ وَ أُمُّهُ سُمَيَّة بِنْت خَيَّاط مِنْ أَوَائِلِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الاسْلامِ ، وَ لَمَّا عَلِمَ الْمُشْرِكُونَ بِإِسْلامِ هَذِهِ الأسْرةِ أَخَذُوهُمْ وعَذَبوهُم عَذاباً شَدِيداً ، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ الرَّسُولُ وَ قَالَ لَهُمْ : ( صَبْراً آل يَاسِرٍ ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةَ ) . وَ طَعَنَ أَبُو جَهْلِ السيّدَةَ سُمَيَّة فَمَاتَتْ ، لِتَكُونَ أَوَّلَ شَهِيدَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ زَوْجُهَا يَاسِرٌ تَحْتَ وطأة التَّعْذِيبِ ، وَ بَقِىَ عَمَّارُ يُعَانِيَ الْعَذابَ الشَّدِيدَ ، فَكَانُوا يَضَعُونَ رَأْسَهُ فِي الْمَاءِِ ، ويَضْرِبونَهُ بِالسِّيَاطِ ، وَيَحْرِقونَهُ بِالنَّارِ ، فَمَرَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ  وَ وَضَعَ يَدَهُ الشَّرِيفَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ : ( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى عَمَّارٍ كَمَا كُنْتَ بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) . 
 وَ اسْتَمَرَّ الْمُشْرِكُونَ فِي تَعْذِيبِ عَمَّارٍ ، وَ لَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَ أَصْنَامَهُمْ بِخَيْرٍ ، وَ عِنْدَهَا تَرَكُوهُ ، فَذَهَبَ مُسْرِعاً إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ : شَرُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَ اللَّهِ مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَ ذَكَرْتُ آلِهَتهُمْ بِخَيْرٍ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: فَكَيْفَ تَجِدُكَ؟ ، قَالَ : مُطْمَئِنُّ بِالْإِيمانِ ، قَالَ : فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ، وَ نَزَلَ فِيهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: { إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ }.
 

تعذيب حبيب بن زيد
وَ رُوِيَ أَنَّ حَبِيب بنِ زَيْدٍ أَمْسَكَهُ مُسَيْلَمَة الْكَذَّابِ فَكَانَ إِذَا قَالَ لَهُ : أَتَشَهَّدْ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَ إِذَا قَالَ : لَهُ أَتَشَهَّدْ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَنَا أَصَمُّ لَا أَسْمَعُ ، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَاراً فَقَطَعَهُ مسيلة عُضْواً عُضْواً وَ مَاتَ شَهِيداً.

تعذيب لُبَيْنَة جارية بني مؤمل 
وَ رَوَى ابْنُ الأثير أَنّ لُبَيْنَة جَارِيَة بني مُؤَمِّلٍ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ أَسْلَمَتْ قَبْلَ إِسْلَامِ عُمَر بْن الْخَطَّابِ وَكَانَ عُمَرُ يُعَذِّبَهَا حَتَّى تُفْتَنْ ثُمَّ يَدَعُهَا وَ يَقُولُ : إِنِّي لَمْ أَدَعْكَ إِلَّا سَآمَةً ، فَتَقُولُ : كَذَلِكَ يَفْعَلُ اللَّهُ بِكَ إِنْ لَمْ تُسْلِمْ ، فَاشْتَرَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا.

تعذيب زِنّـيـْرَة 
رَوَى ابْنِ الأثير ـ أَيْضاً ـ أَنَّ زِنّيْرَة وَ كَانَتْ لبني عَدِيٍّ وَكَانَ عُمَرُ يُعَذِّبَهَا ، وَ قِيلَ : كَانَتْ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَ كَانَ أَبُو جَهْلٍ يُعَذِّبَهَا حَتَّى عَمِيَتْ فَقَالَ لَهَا : إِنَّ اللَّاتِ وَ الْعُزَّى فَعَلًا بِكَ ، فَقَالَتْ : وَ مَا يَدْرِي اللَّاتِ وَ الْعُزَّى مَنْ يعبُدهُما وَ لَكِنْ هَذَا أَمَرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَ رَبِّي قَادِرٌ عَلَى رَدِّ بَصَرِي فَأَصْبَحَتْ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ بَصَرَهَا فَقَالَتْ قُرَيْش : هَذَا مِنْ سَحَر مُحَمَّدٍ ، فَاشْتَرَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا.
نعم لقد تعرّض المسلمون الأوائل للعنف والعدوان في مكّة والرسول يدعوهم إلى الدعوة السلميّة وعدم اللجوء إلى الردّ بالعُنْف مهما أوذوا من قِبَل المشركين ومَلَئِهم .

الصبرُ والصمودُ
وبالرّغم من كلّ ذلك ظلّت حركة النبيّ | في مكّة حركة إصلاحيّة سلميّة، تستمد مبادئها من القرآن الكريم الذي كان يأمر النبيّ| بالصبر والتحمّل ،كما في الآيات التالية: 
وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}.
قوله تعالى :{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}.
وقوله تعالى:{ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}.
وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}.
وبالرّغم من كلّ ما لاقاه من قومه فقد كان يكرّر قوله :(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) فلم يرد في تأريخ الرسول | طوال مدّة مكوثه في مكّة أنْ ردّ حجراً رُمي به بل كان يجابه تلك الأفعال والتصرّفات من قريش  بالتحمّل والصبر  . 

إتمامُ الحُجّة
لقد ضرب النبيّ والمسلمون الأوائل أروع الأمثلة في الصبر والتحمّل في سبيل الله تعالى وليس معنى ذلك أنّه تخلّى عن مقاومة الكفر، ومقارعة الباطل، والتصدّي للضلال والانحراف، بل انتهج أسلوب إتمام الحجّة الذي يعدّ الخيار الأوّل في منهاج الرسالات السماويّة.
وكذلك المسلمون الأوائل حيث رمتهم العرب عن قوس واحدة ومع ذلك لم يصدر منهم أيّ عمل عنيف بالرّغم من استعدادهم للتضحيات والفداء وقد طلبوا من الرسول أنْ يأذن لهم بالقتال والدفاع، فلم يأذن لهم  بذلك بل أمرهم  بمقاومة كلّ أنواع الظلم بإيمانٍ وصبر، فكانوا كذلك بنحوٍ لا مثيل له، ولم يمدوا أيديهم إلى السلاح  ولم يستعملوا القوّة فضلاً عن الغدر والاغتيال حتّى استشهد عدد من المسلمين  تحت وطأة التعذيب الجسديّ .
 وليس ذلك إلّا دليلاً واضحاً على أنّ الإسلام رفع شعار السلم على الصعيدين النظريّ والتطبيقيّ حيث لم يقتصر على إعطاء مبادئ السلم فحسب بل ربّى أتباعه على التسامح  وأدّبهم عمليّاً على السلم والسلام. 

المصدر:کتاب السلم و اللاعنف في الاسلام و امتدادهما في النهضة الحسینیة تألیف سماحة السید قاسم الجلالي


  • المصدر : http://www.surrey-ic.org/subject.php?id=8
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 03 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14