هلْ الجهادُ حركةٌ عنفيّةٌ؟
يعدّ الجهاد أحد دعائم الإيمان، وأهمّ أركان الإسلام وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنّته الوثيقة، إلّا أنّنا نلاحظ محاولات يآسة تسعى بكلّ ما أتيت من قوّة لتكريس الكراهية للإسلام وتنمية مشاعر الغضب لدى الذهن العام من مفاهيم الاسلام ومن أبر مصاديق تلكم المحاولات العقيمة طرح لجهاد باعتباره حركة عنفيّة مخالفة للأمن والاستقرار الاجتماعيّ، ويتّضح بطلان هذا الزعم من خلال تعريف الجهاد، ومعرفة مصاديقه.
تعريفُ الجهاد شرعاً:
الجهادُ هو بذل النفس والمال والوسع في إعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان.
وهذا التعريف يشمل مجاهدة الكفّار و النفس والشيطان، فأمّا مجاهدة الكفّار فتقع باليد والمال واللّسان والقلب، وأمّا مجاهدة النفس فتتحقّق بتعلّم أمور الدين والعمل بها و تعليمها , وأمّا مجاهدة الشيطان فتقع على ما يأتي به من الشبهات وما يزيّنه من الشهوات.
الجهاد الأكبر والأصغر:
وينقسم الجهاد -كما أشرنا - في الشريعة الإسلاميّة إلى قسمين، الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر، وذلك لما رواه المحدّثون منهم الشيخ الكلينيّ عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفليّ، عن السكونيّ، عن أبي عبدالله علیه السلام أنّ النبيّ بعث بسريّة فلمّا رجعوا قال: مَرْحَباً بِقَوْمٍ قَضَوُا الْجِهَادَ الْأَصْغَرَ وَ بَقِيَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ مَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ : جِهَادُ النَّفْسِ.
فعُلم: أنّ الجهاد لا يرتكز - كما يُظنّ – على إعمال القوّة البدنيّة بل إنّ قسمه الأكبر ينصرف إلى تهذيب النفس واستكمال فضائلها وتربيتها وهذا العامل كان وراء دخول الناس في دين الله تعالى أفواجاً فينتشر السلام بين أفراد البشر.
نعم الجهاد الأصغر هو عمليّة دفاع تُعدّ من الحقوق المتسالم عليها بين أبناء البشر كافّةً، وهو حقّ الدفاع عن النفس والممتلكات، وهذا الأمر مرتكز فطريّ وغريزيّ ثابت في تكوين الإنسان فالذي يهدّد أفراد المجتمع يحقّ للمجتمع ردعه والدفاع عن وجوده ومنافعه حقّاً راسخاً ومسلّماً.
وهذا القانون ثابت في جميع الأديان والشرائع، ومعترف به في القوانين الوضعيّة وفي عصرنا الحاضر أقرّت الأمم المتّحدة حقّ الشعوب في المقاومة المسلّحة فرادى أو جماعات دفاعاً عن حقوقها المسلوبة وعملاً على استرداد سيطرتها على ثرواتها وأقاليمها.
فتشريع الجهاد في الإسلام باعتباره وسيلةً فطريّةً لاسترداد الحقوق فلا يمكن نعت ( الجهاد) بأنّه حركة عنفيّة بحال، خصوصاً في الدين الذي لا يرى القتال هو الخيار الأوحد، بل يطرح خيارات اُخرى كالصلح والجزية:
الخيار الاوّل: ( الصلح )
نصّ القرآن الكريم في آياتٍ عديدةٍ على الصلح في مختلف مجالات الحياة، ومن الآيات التي تركّز هذا المفهوم في المجتمع البشريّ قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وهذه الآية الشريفة وإنْ كانت نازلة في مورد خاص إلّا أنّ لفظ (الصلح) فيها عام يندرج تحته كلّ صلح.
ومنها: قوله تعالى: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }.
وأثبتت السيرة النبويّة الشريفة أنّ أوّل خيار كان يتبنّاه الرسول هو عرْض الصلح و المعاهدات تجنّباً للحرب وحقناً للدماء، كما حدث مع كفّار قريش في صلح الحديبية، وكما صالح الضمريّ، وكما عاهد بني قريظة والنضير وقنيقاع – قبل أنْ ينقضوا عهدهم - وغيرهم.
الخيار الثاني: (الجزية)
وهي مأخوذةٌ من مادّة الجزاء ، وتعني المال المأخوذ من غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الحكومة الإسلاميّة ، جزاء حفظ أرواحهم وأموالهم ، وهي حقّ ماليّ نظير ما على المسلمين من حقوق ماليّة.
وقد نصّ القرآن الكريم عليها في قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
قال القرطبيّ: الذي دلّ عليه القرآن أنّ الجزية تُؤخذ من المقاتلين... وهذا إجماع من العلماء على أنّ الجزية إنّما توضع على جماجم الرّجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذريّة والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني.
وقد اعترف بذلك المستشرقون كـ (ول ديورانت) قال:ولم يَفرضُ [ الإسلام ] عليهم أكثر من ارتداء زيٍّ ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كلّ شخص تختلف باختلاف دخله، وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير .. ويُعفى منها الرّهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ، والأَرِقَّاء، والشيوخ، والعَجَزة، والعُمي، والشديد الفقر.
لماذا وهم صاغرون؟
إنّ التعايش في ظلّ أيّ نظام سليم يتطلّب الخضوع لقوانينه والرضوخ لأحكامه والإعتراف بحاكميّته وعلى ذلك يكون المراد من { صَاغِرُونَ } أنّ الجزية ينبغي أنْ تدفع في حال من الخضوع لقوانين الإسلام والقرآن وعدم نقضها أو التعدّي عليها .
فليس المراد منها إذلالهم كيف وقد حثّ القرآن على البرّ والقسط بأهل الكتاب المسالمين ؟ فقال تعالى :{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } والبرّ أعلى أنواع التلطّف وحسن العِشْرة والتعامل .
الجزية صيانة لأهل الذمّة
وتَضمنُ الجزيةُ لأهل الكتاب والمعاهدين حقوق المواطنة في ظلّ الدولة الإسلاميّة فيتحتّم عليها رعايتهم والحفاظ عليهم من كلّ أذى أو سوء ، وقد حذّر النبيّ من ظلم أهل الذمّة وانتقاص حقوقهم .
قَالَ رَسُولِ اللَّهِ: أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وقد عقد الرسول الجزية مع نصارى نجران، ومع يهود خيبر ، حيث ردّ أهلها إليها بعد الغَلَبَة عليهم على أنْ يعملوا ويؤدّوا النصف ، ومع أكيدر دومة. ومع كثيرٍ من أهل البلاد على مال يؤدّونه كلّ ذلك كان منه تجنباً للقتال وحقناً للدماء وبسطاً للأمن والإستقرار والتعايش السلميّ بين أفراد المجتمع الإنسانيّ.
المصدر:کتاب السلم و اللاعنف في الاسلام و امتدادهما في النهضة الحسینیة تألیف سماحة السید قاسم الجلالي