أسبابُ ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) ونتائجها
إنَّ مَنْ قرأ التأريخ الإسلاميّ يقف على حقيقةٍ تأريخيّةٍ ثابتةٍ وهي أنَّ النبيَّ الأكرم أعْلن عن ثورة سبطه الإمام الحسين علیه السلام قبل قيامها بأكثرمن خمسين سنة، كما وضّح المعالم الأساسيّة لهذه الثورة العظمى وبيّن أحداثها إجمالاً بالنحو الذي يحققّ أهداف هذه الثورة العظيمة التي ما كان ليستمر الدين الإسلاميّ لولاها، حيث عيّن أرض الواقعة وهي كربلاء وعيّن قائدها وهو الحسين علیه السلام وعيّن أعداءَه وهم بنو اُميّة، وعيّن الأهداف والأسباب والنتائج.
من هنا يمكن الإذعان بكلّ وضوح بأنّ الحسين علیه السلام خرج طبقاً للمخطّط السماويّ كما أخبر الرسول فالإمام الحسين لم يفجّر ثورته الكبرى أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما انطلق ليقيم معالم الإصلاح ويحقّق العدل ويقضي على الظلم وغير ذلك ممّا هو بيّن في دوافع ثورته تلك الدوافع التي تُكوّن العناصر الأساسيّة في مشروعيتها.
إنّه من الصعب أنْ نُحيط بجميع الأسباب لثورة امتدّت في عمق الزمن، نعم يمكننا أنْ نُجمل تلك الأسباب بالنقاط التالية:
السبب ُالاوّل: تحمّل المسؤوليّة الإلهيّة
حدّد القرآن الكريم والسنّة الشريفة حدود تحرّك الأنبياء والأوصياء وولاة الأمر في مختلف الظروف والأحوال بما لا يبقى معه مجال للتساؤل في صواب قراراتهم ومواقفهم.
وعلى ضوء ذلك إنبثقت حركة أبي عبد الله الحسين علیه السلام وفقاً للكتاب والسنّة علماً بأنَّه علیه السلام هو عِدْل القرآن بنصّ حديث الثقلين.
نعم انطلق علیه السلام في ثورته الإصلاحيّة إحساساً بالمسوؤليّة باعتبارين أساسييّن:
الأوّل: الاعتبار الخاصّ، نظراً إلى أنّه الإمام المنصوص عليه، كما في الحديث الشريف: (الحَسَنُ وَاَلحُسَيْنُ إمَامَانِ).
وواضحٌ أنَّ مِنْ أهمّ وظائف الإمام: ( الدفاع عن الإسلام وحماية المسلمين).
حيث روي عن الرسول أنّه قال:
(مَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إِلَّا أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ).
ثانياً: الاعتبار العامّ، حيث حمّل الإسلام كلّ مسلم المسؤوليّة عمّا يحدث في البلاد الإسلاميّة.
كما في الحديث: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
وفي هذا الصدد خطب الإمام الحسين علیه السلام فقال: قال جدّي رسول الله: (مَنْ رَأی سُلْطاناً جَائراً مُسْتَحِلَّا لِحُرُمِ اللهِ، ناَکِثاً لِعَهْدِ اللهِ، مُخَالِفاً لِسُنَّةِ اللهِ، يعْمَلُ فیعبادِ اللهِ بالإثْمِ وَ العُدْوانِ، ثُمَّ لم يغَيّرْ بِفِعْلٍ و لا قولٍ، کانَ حَقيقاً عَلی اللهِ أنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ).
وَ خَطَبَ علیه السلام بِذِي حَزْمٍ فَقَالَ : إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ مَا تَرَوْنَ مِنِ الْأَمْرِ، وَ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَ تَنَكَّرَتْ ، وَ أَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا ، وَ اسْتَمَرَّتْ وَ وَلَّتِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ ، وَ إِلَّا خَسِيس عَيْشٍ كالمَرْعى الْوَبِيلِ ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقّ لَا يُعْمَلُ بِهِ ، وَأَنْ الْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ ، فَلْيَرْغَب الْمُؤْمِنُون فِي لِقَاء اللَّهِ عَزَّ وَجَل فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْت إِلَّا شَهَادَة ، وَ الْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَمَاً.
ومِنْ هنا نجد أنّ المفكّرين الإسلامييّن يصرّحون بأنّ الإمام علیه السلام انطلق في ثورته مِنْ مقتضى الواجب الإلهيّ فتحمّل مسوؤليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دفاعاً عن الإسلام. ولنذكر جملةً منهم:
1- الاُستاذ محمّد عبد الباقي سرور: [ت 1347 ه ]:
قال: (والحسينُ بوضعه الراهن في عهد يزيد هو الشخصيّة المسؤولة في الجزيرة العربية بل البلاد الإسلاميّة كافّةً، لمكانته في المسلمين ولقرابته مِنْ الرسول ولكونه أعظم المسلمين في ذلك الوقت عِلْمَاً وزهْداً وَحَسَباً وَمَكانَةً).
وقال في موضعٍ آخرَ: لو بايعَ الحسينُ علیه السلام يزيداً الفاسق المستهتر- واخذ يسرد جملة من فضائح يزيد - لكانت فتيا من الحسين علیه السلام بإباحة جميع المنكرات التي ارتكبها يزيد، للمسلمين ولكان سكوته إثماً وجريمةً في حكم الشريعة الإسلاميّة.
2- الشيخ محمّد عبده: [1266 - 1323 هـ ]:
قال: (إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع، وحكومة جائرة تعطّله وجب على كلّ مسلم نصر الأولى وخذل الثانية- إلى أنْ قال ـ ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين علیه السلام سبط الرسول على إمام الجور والبغي الذي ولّي أمر المسلمين بالقوّة والمنكر يزيد بن معاوية خذله الله وخذل من نصره).
3- الاُستاذ الشيخ عبدالله العلايليّ: [1914-1996م]:
قال: وهناك واجبٌ على الخليفة، إذا تجاوزه وجب على الاُمّة إسقاطه - إلى أنْ قال- فإذا فسق الملك وجاهر بالفسق وتحدّى الله ورسوله والمؤمنين لم يكن الخضوع له إلّا خضوعاً للفسق وخضوعاً للفحشاء والمنكر، وهذا هو المعنى التحليليّ لقول الحسين علیه السلام: ويزيدٌ رجلٌ فاسقٌ وشاربٌ للخمرِ وقاتلٌ للنفسِ المحرّمةِ.
السبب ُالثاني: رفض ُالبيعة
عمل يزيد بن معاوية على إرغام الإمام علیه السلام على المبايعة باعتداد نفسه خليفة مفترض الطاعة، وكان موقف الإمام علیه السلام من ذلك هو الرفض القاطع حفظاً على معالم الدين والشريعة وبموقف الإمام علیه السلام هذا لم يكن أمامه سوى خيار الدفاع عن النفس الذي سينتهي إلى الجهاد ، لكونه أمراً حتميّاً لا ينفكّ عن الامتناع عن البيعة، وقد صرّح الإمام علیه السلام بذلك قائلاً:
( ألا وإنّ الدَعِيّ ابنَ الدَعِيّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَينِ بَيْنَ السِلَّةِ وَالذِلَّةِ).
حيث عَنَى علیه السلام بـ ( السلَّة): سلّ السيوف ، وهي كناية عن الحرب، وبـ(الذِّلة ): الإستسلام والخضوع .
وفي هذا الصدد يقول العلّامة الطباطبائيّ [1892م – 1981م ]:
(وفي الواقع لم يكن تكليفه [أي: الإمام الحسين علیه السلام] الإلهيّ سوى الامتناع عن البيعة والقتل في هذا السبيل، وهذا هو معنى مضمون ماترويه بعض الرّوايات أنّ الرسول قال له في المنام: (لَقَدْ شَاَءَ اللهُ أنّ يَراكَ قَتيلاً).
ويقول الدكتور أحمد محمود صبحي:
في إقدام الحسين علیه السلام على بيعة يزيد انحراف عن أصلٍ من اُصول الدين من حيث إنّ السياسة الدينيّة للمسلمين لا ترى في ولاية العهد وراثة الملك إلّا بدعةً هرقليّةً دخيلةً على الإسلام، ومن حيث إنّ اختيار شخص يزيد مع ما عُرف عنه من سوء السيرة، وميله إلى اللهو وشرب الخمر، ومنادمة القرود ليتولّى منصب الخلافة عن رسول الله أكبر وزر يحلّ بالنظام السياسيّ للإسلام، يتحمّل وزره كلّ مَنْ شارك فيه ورضي عنه، فما بالك إذا كان المُقْدِم على ذلك هو ابن بنت رسول الله، كان خروج الحسين - إذن - أمراً يتّصل بالدعوة والعقيدة أكثر ممّا يتّصل بالسياسة والحرب.
نعمْ إنّ بيعة الإمام علیه السلام ليزيد تساوي هدم الدين ومحو الشريعة لإنهماك يزيد في الرذيلة والفساد وارتكابه الموبقات والجرائم .
لذلك لمّا كتب معاوية إلى عامله على البصرة زياد بن ابيه يأمره أنْ يأخذ من الناس البيعة ليزيد فأجابه زياد: يا أمير المؤمنين ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبّغ، ويُدْمِن الشراب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، ولكنْ تأمره يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً وحولين، فعسانا أنْ نموّه على الناس.
لذا يروي المؤرخون أنّ معاوية كتب لولده يزيد أبياتاً يوصيه فيها أنْ يتظاهر بالصلاح في الملاء ويعمل المفاسد في الخفاء فأنشده قائلاً:
انْصِبْ نَهَارَكَ فِي طِلابِ العُلا
واصْبِرْ عَلى هَجْرِ الحَبيبِ القريب
حتّى إذا الليلُ أتى بالدُجا
واكتحلتْ بالغَمض عينُ الرقيب
فباشر الليلَ بما تشتهي
فإنّما الليلَ نهارُ الأريب
كمْ فاسقٍ تحسبه ناسكاً
قدْ باشرَ الليلَ بأمرٍ عجيب
غطّى عليه الليلُ أستاره
فباتَ في أمنٍ و عيشٍ خصيب
ولذّة الأحمقِ مكشوفة
يسعى بها كلُّ عدّوٍ مريب
السببُ الثالثُ: استجابة الإمام علیه السلام لنداء المستغيثين به
من أوضح الأسباب التي ثار من أجلها الإمام علیه السلام الاستجابة للأمّة حيث تواترت الرسائل عليه من أهل العراق تحمّله المسؤوليّة أمام الله تعالى إنْ لم يستجب لدعوتهم الملحة لإنقاذهم من تعسّف الاُموييّن وبغيهم وبهذا تكون الحجّة قد قامت على الإمام علیه السلام لأنْ يعلن الجهاد والثورة .
وفي هذا الصدد يقول محمّد عبد الباقي سرور:
جاءه ـ أي: الإمام الحسين ـ ثلاثون ألف من الخطابات من ثلاثين ألف من العراقييّن يطلبون فيها منه الشخوص لمشاركتهم في محاربة يزيد بن معاوية وألحّوا تكرار هذه الخطابات حتّى قال رئيسهم عبد الله بن الحصين الأزديّ: يا حسين سنشكوك إلى الله تعالى يوم القيامة إذا لم تلبّ طلبنا وتقوم بنجدة الإسلام، كيف لم يلبّ والحسين ذو حميّة دينيّة ونخوة إسلاميّة والمفاسد تترى أمام عينيه؟! كيف لا يقوم بتلبية النداء؟!، وعلى هذا الوضع لبّى النداء كما تأمر به الشريعة الإسلامية.
وقدْ بعثَ اليهم الإمام علیه السلام سفيره مسلمَ بن عقيل (رضوان الله عليه) فقامَ بالأمر خيرَ قيامٍ وأخذَ البيعة َمنهم ثمّ بادر للكتابة للإمام علیه السلام جاء فيها:
وأمّا بعد فإنّ الرائدَ لا يكذب أهله وقد بايعني ثمانية عشر ألف فعجّل فإنّ الناس كلّهم معك.
هذه هي أهمّ الأسباب التّي نهض من أجلها الإمام الحسين علیه السلام مضافاً إلى أسباب أُخرى منها: (تأسيس معاوية للدولة الأموية الجائرة) و (الاستأثار ببيت المال وتوزيعه بناءً على التحزب السياسي) و (السياسة الضرائبية العشوائية الهادفة إلى تجويع المسلمين) و (تأسيس مدرسة الكذب على الرسول و وضع الحديث) و(إثارة عناصر التفرقة والعصبيات القبليّة) و (سبّ الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ) و (الحطّ من قيمة أهل البيت) و (صيانة الخلافة الإسلاميّة من أمثال يزيد)
وغير ذلك ممّا يحتّم على الإمام علیه السلام أنْ ينهض ويعلن رفضه للظلم ويدعو إلى الاصلاح في اُمّة جدّه، حفاظاً على ديمومة الدين واستمراريّة الإسلام الحنيف.
نتائج ثور الامام الحسين علیه السلام
لم يقتصر أثر الثورة الحسينيّة ومعطياتها على اللحظة التأريخيّة التي وقعت فيها، بل امتد تأثيرها إلى كلّ العصور والأزمان المتتالية حتّى عصرنا الحاضر.
لقد حقّقت هذه النهضة المقدّسة ـ بما اشتملت عليه من عُمْق حضاريًّ وإنسانيًّ رائع ـ جميع أهدافها وتطلّعاتها على مختلف الأصعدة ، ويمكننا الإشارة إلى أهمّها النتائج التي حققتها هذه الثورة المباركة:
أوّلاً: تحطيم الإطار الدينيّ المزيف لبني أميّة
تمظهرت السلطة الأمويّة بظاهر الإسلام، فانتزعت لها عنوان خلافة النبيّ وقد انخدعت قطّاعات واسعة من المجتمع بذلك ،واستمرار الوضع على هذه الحالة يعني محو الاسلام وطمس تعاليمة ، إلّا أنّ ثورة الطفّ تمكنت من ازاحة القناع الدينيّ المزيف وكشف الواقع الإلحاديّ الذي كان عليه حكّام بني أميّة عموماً ويزيد بن معاوية خصوصاً، ممّا أوجد ردّة فعل عنيفة في نفوس المسلمين وضمائرهم.
قال مجاهد [ ت103هـ]: فوالله لمْ يبق في الناس أحدٌ إلّا سبّه - أي سبّ يزيداً- وعابه وتركه.
وقال ابن الأثير[ت 630 هـ]: ولمّا وصل رأس الحسين علیه السلام إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسرّه ما فعل ، ثمّ لم يلبث إلّا يسيراً حتّى بلغه بغض الناس له ولعْنِهِم وسَبِهِم.
ثانياً: استرّجاع القيم الإسلاميّة والمباديء الربانيّة
أسّس الإسلام منظومة متكاملة من المُثل الروحيّة العالية ، والقيم الإنسانيّة الرفيعة، والأخلاق الربانيّة الفاضلة التي يرتقي من خلالها الإنسان إلى مصاف وقد عمد الاُمويّون إلى تدمير تلك المنظومة الأخلاقيّة، فلم يعد لها أيّ ظلٍّ على واقع الحياة الإسلاميّة، فمنيت الأمّة بتذبذبٍ روحيّ وهزيمةٍ نفسيّة وضعفٍ عقائديّ ، حيث كثّف الجهاز الحاكم من بثّ البدع ونشر الخرافات والأباطيل بين المسلمين لكي يمحق الإسلام ، وقد أشارعلیه السلام إلى ذلك في رسالته التي بعثها إلى أهل البصرة: (فإنّ السنّة قدْ أميتَتْ والبدعَة قدْ أحييتْ) لقد ثار علیه السلام لحماية تلك القيم والحفاظ عليها وليقضي على البدع الجاهليّة التي تبنّاها الأمويّون ، ويحيي سنّة جدّه التي أماتوها ، ونشر راية الإسلام وتثبيت كلمة الله تعالى في الأرض .
وإلى ذلك أشار الإمام عليّ بن الحسين علیه السلام عندما قيل له: مَن المنتصر؟ بعد واقعة كربلاء :
رَوَى أَحْمَدُ بْنُ عُبْدُون ، عَنْ عَلِي بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ عَلِي بْنِ فَضَّالٍ ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ ، عَنْ أَبِي عُمَارَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَلْحَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَيَابَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَقَدْ قُتِلَ الْحُسَيْنَ بْن عَلِيٍّ ( صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) اسْتَقْبَلَهُ إِبْرَاهِيمَ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْد اللَّهِ وَ قَال : يَا عَلِيَّ بْنِ الْحُسَيْنِ مَنْ غَلَبَ ؟ وَ هُوَ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَ هُوَ فِي الْمَحْمِلِ ، قَالَ : فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ : إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مَنْ غَلَبَ وَ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَأَذَّنَ ثُمَّ أَقِمْ .
وبهذا أعلن الإمام السجاد علیه السلام بيان إنتصار ثورة الإمام الحسين علیه السلام التي انطلقت لحفظ معالم الدين فما دام الأذان مرفوعاً و الإقامة موجودةً والصلاة قائمةً فالإسلام هو الغالب و المنتصر، إذْ الأذان والإقامة شعاران مهمّان في الإسلام حاول بنو أميّة محوهما انتقاماً من رسول الله لقتلاهم يوم بدر، فهذا يزيد بن معاوية عندما أدخلت إلى الشام بنات الرسالة وهنَّ سبايا يتقدّمهنَّ رأس سيّد شباب أهل الجنّة علیه السلام فأنشد:
لَمَّا بَدَتْ تِلْكَ الْحُمُولُ وَ أَشْرَقَتْ تِلْكَ الرؤوسُ عَلَى رَبَى جِيْروَنِ
نَعِبَ الْغُرَابُ فَقُلْتُ صحْ أو لاتصحْ فَلَقَدْ قَضَيْتُ مِنَ الرسُولِ دِيُونِي
مِنْ هنا يتبيّن أنَّ ثورة الحسين علیه السلام تمثّل إقامة العدل الإلهيّ في الأرض من خلال استمرار الأذان والإقامة وديمومتهما التي تعتبر دليلاً على انتصار الحسين علیه السلام وغلبته على يزيد وبني أميّة الذين أرادوا أنْ يُعيدوها جاهليّة جهلاء.
نعم فمن أراد أن يعرف المنتصر فليُلق نظرةً إلى كربلاء محطّ رحال العارفين ومهوى أفئدة العاشقين التي تأمّ ذلك الضريح الشامخ، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع أهل البيت علیه السلام مع مناوئيهم وأعدائهم.
و لقد أجاد الشاعر محمّد مجذوب السوريّ [1907 -1999م] حين صوّر هذه الحقائق في قصيدته الغرّاء حينما وقوف على قبر معاوية فجادت قريحته قائلاً:
والصــــافناتُ وزهزُها والسؤددُ
أيــــن القصــورُ أبا يزيدَ ولهوُها
أعتابِ دنيـــــــــاً سِحرُها لا ينفدُ
أين الدّهــــاءُ نَحَرتَ عزَّتَه على
وبقيـتَ وحــــدَكَ عِبـــرةً تتجــدَّدُ
تلك البَهارِجُ قــــد مضَت لسبيلِها
لأسال مدمعَكَ المصيـر الأسـودُ
هذا ضريحك لو بصرت ببؤسـه
سَكـــَرَ الذبـابُ بها فراحَ يُعربِـــدُ
كُتلٌ مِن التــربِ الَمَهينِ بخِرْبـــةٍ
فكأنّهـا فـي مجهـل لا يقصـدُ
خفيـتْ معالمُهـا علـى زوّارهـا
مــاذا أقولُ وبابُ سمعِك مُوصَـــدُ
أبــا يزيـــدَ وســــاءَ ذلك عِتـــرةً
يرتدُّ طرْفك وهــو بــــاكٍ أرمـــدُ
قم وأرمَق النجفَ الشريفَ بنظرةٍ
فتــكادُ لـــولا خـوفَ ربـِّك تـُـعبَدُ
تلك العظامُ أعــــــزَّ ربـُّك قدرَها
من كـلّ حـدبٍ شوقُهـا المتوقـدُ
ابـداً تباكرهـا الوفـود يحثـّهـا
ثمّ انقضـى كالحلـم ذاكَ المـوردُ
نازعتَها الدنيـا ففـزتَ بوردهـا
ثالثاً: ثورة كربلاء نبراسٌ للمظلومين ونكالٌ للظالمين
ظلّت نهضة كربلاء تنبض بالدفق والحيويّة ، باعثةً الحياة في الجسد الإسلاميّ، ومثيرةً روح الإباء والتّضحية والفداء في النفوس، وهاديةً الثائرين على مرّ الزمن إلى سواحل النصر والظفر، من خلال الجهر بصوت الحقّ وبذل النفس والنفيس لبلوغ الأهداف السماويّة النبيلة.
نعم تمكنت هذه الثورة الكبرى من إحياء رسالات السماء التي أوشكت أنْ تضمحلّ وسط أهواء الحكّام الفاسدين، وأثارت الوعي واليقظة لدى الأمّة حتّى صارت تطالب باسترجاع جميع حقوقها.
لقد هيمنت حركة سيّد الشهداء علیه السلام على وجدان الأحرار في العالم فصنعت كلّ التحوّلات التي شهدتها القرون اللّاحقة حيث أعقبتها ثورات فرديّة وجماعيّةٌ كثيرةٌ، نذكر بعضها.
كما أنَّ هذه الثورة المباركة حطمت عروش الظالمين والبستهم ذلاً شاملاً كما أخبر الإمام الحسين علیه السلام أبا هرم حيث قال له: يَا أَبَا هَرَم شَتَمُوا عِرْضِي فَصَبَرْتُ وَ طَلَبُوا مَالِي فَصَبَرْتُ وَ طَلَبُوا دَمِي فَهَرَبَتُ وَ أَيْمُ اللَّهِ ليَقْتِلُنَّي ثُمَّ ليُلْبِسَنَّهُم اللَّهُ ذُلّاً شَامِلاً وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ لَيُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ يُذِلَّهُم.
الثورات التي حدثت بعد واقعة كربلاء
ثورة عبد الله بن عفيف الأزديّ [سنة61هـ]
وهي أوّل ثورة فرديّة ، قادها الشهيد عبد الله بن عفيف الأزديّ [ت61هـ] في الكوفة مباشرةً بعد استشهاد الإمام الحسين علیه السلام فكانت الشرارة الأولى لانبثاق الثورات ضدّ الظالمين، وقد حقّقت أهدافها حيث سلبت بني أمّية عامةً وعبيد الله بن مرجانة خاصةً نشوة النصر الكاذب وأحالته إلى هزيمة نكراء تجرّ أذيال الخزي والعار إلى يوم القيامة.
ثورة أهل المدينة (واقعة الحرّة ) [سنة 63 هـ ]
ما إنْ انتشر خبر واقعة كربلاء في المدينة إلّا وأخذ الغضب يدبّ في نفوس المسلمين، وصار حديث الساعة يدور حول جرائم يزيد وفسقه وفجوره ، على إثر ذلك عزم ثلّة من خيار المدينة على استجلاء الحقيقة فعزموا على الذهاب الى الشام بقيادة عبد الله بن حنظلة الأنصاريّ فوفدوا على يزيد بن معاوية فرأوا منه أحوالاً منكرة ، فرجعوا إلى المدينة ، وخلعوه، وتبايعوا على الموت في ذلك ، فأرسل إليهم يزيدٌ مسلمَ بن عقبة المريّ في جيش، فخرج إليه عبد الله بن حنظلة مع أهل المدينة واشتدّ القتال، فانهزم أهل المدينة، فلمّا رأى عبد الله بن حنظلة ما جرى ، أمر أبناءه الثمانية بالجهاد فاستشهدوا ثمّ تقدّم هو وقاتل حتّى استشهد و استشهد معه خلق من الصحابة وأكثر سادة أهل المدينة ، ودخل مسرف بن عقبة المدينة فأنهبها وأباحها ثلاثاً، وأفتضّ بها ألف عذراء و من بقي من أهل المدينة جيئ بهم أسرى إلى مسلم بن عقبة فمن يبايع على أنّه عبدٌ مملوكٌ ليزيد بن معاوية يتحكّم فيه وفي دمه و ماله و أهله ما يشاء اُطلق سراحه ،ومن كان يصرّ على أنّه عبدٌ لله سبحانه وتعالى سفكوا دمه أمام مسجد رسول الله، وكانت في أواخر ذي الحجّة من سنة ثلاث وستّين للهجرة.
ثورة عبد الله بن الزبير [سنة 64هـ] في الحجاز
ألقت حادثة كربلاء بظلالها على منطقة الحجاز بأسرها فثاروا على يزيد وطردوا عمّاله من الحجاز عموماً ومكّة خصوصاً وقد استثمر عبد الله بن الزبير موجة الغضب والحنق على بني اُمّية فأعلن خلع يزيد، وبدأ يأخذ البيعة لنفسه من الناس في مكّة .
وعندما إنتهى مسلم بن عقبة المريّ من المدينة اتّجه بجيش الشام الجرّار نحو مكّة يريد عبد الله بن الزبير، ولم يقطع مسلم مسافةً حتّى عَجّل الله تعالى بهلاكه، فتولّى إمارة الجيش الحصين بن النمير السكونيّ فسار إلى مكّة، فقاومه ابن الزبير.
رمي الكعبة بالمنجنيق [ سنة 64هـ]
واستمر القتال بين ابن الزبير وجيش يزيد بقيّة محرّم وصفر سنة أربع وستين وفي أوائل ربيع الأوّل قذَفَ البيت بالمنجنيق، ثمّ جاءهم خبر هلاك يزيد في مطلع ربيع الثاني، وقد هلك في الرابع عشر من ربيع الأوّل ، سنة أربع وستّين للهجرة.
رمي الكعبة بالمنجنيق[سنة 73هـ]
ولمّا تولّى عبد الملك بن مروان [ حكم من سنة 65 حتّى 86 هـ] عيّن الحجّاج بن يوسف الثقفيّ ليقارع ابن الزبير المتحصّن في مكّة فجهّز له جيشاً قويّاً إنتهى به الأمر إلى رمي الكعبة بالمنجنيق فهدّمها ، ثمّ تمكّن من عبد الله بن الزبير فقتله وصلبه وذلك سنة ثلاثاً وسبعين للهجرة.
ثورة نجدة بن عامر الخارجيّ [بعد كربلاء] في اليمن
نجدة بن عامر اليمانيّ الحروريّ [ 36 - 69 هـ ] من رؤس الخوارج زائغ عن الحقّ ، من كبار أصحاب الثورات في صدر الاسلام ، خرج على يزيد بن معاوية باليمامة وقدم مكّة، كان أوّل أمره مع نافع بن الأزرق ، ثمّ اختلف معه فخرج مستقلاً ( سنة 66 هـ ) أيّام عبد الله بن الزبير ، في جماعةٍ كبيرةٍ ، فأتى البحرين واستقرّ بها، وجّه إليه مصعب ابن الزبير وجيشاً بعد جيشٍ ، فهزمهم ، وأقام نحو خمس سنين وعمّاله بالبحرين واليمامة وعمان وهجر وغيرها، حتّى نقم عليه أصحابه أموراً ارتكبها فخلعوه ، ثمّ قتلوه ، وقيل : قُتله أصحاب ابن الزبير ، سنة 69هـ وقيل :70 هـ، وله آراء معروفة ، وأتباع انقرضوا.
ثورة التوّابين [ سنة 65هـ] في الكوفة
كانت الكوفة تعيش ألم مأساة كربلاء أكثر من غيرها من البلدان ممّا قاد إلى انبثاق حركة شيعيّة يترأسها الصحابيّ الجليل سليمان بن صرد الخزاعيّ رافعةً شعار: ( يا لثارات الحسين ) وفي الثاني والعشرين من جمادى الأُولى سنة خمس وستين للهجرة ، تحرّك التوّابون نحو الشام ، و في منطقة (عين الوردة) إلتقى الجيشان ودارت رحى حرّب طاحنة أبلى خلالها التوّابون بلاءً حسناً، فأحرزوا النصر في الجولة الأولى، وانهزم جيش الشام فسارع ابن زياد إلى إمداده بإثني عشر ألفاً بقيادة الحصين بن نمير السكونيّ ، ثمّ مدّه بثمانية آلاف بقيادة شرحبيل بن ذي الكلاع، فحاصروا التوّابين من كلّ حدبٍ وصوب، واستشهد سليمان بن الصرد و هو يومئذٍ في الثالثة والتسعين من عمره .
ثورة المختار الثقفيّ [سنة 66هـ] في الكوفة
أعلن المختار بن عبيدة الثقفيّ [ت 67هـ] ثورته ، وتتبّع قتلة الإمام الحسين علیه السلام فقتل منهم خلقاً عظيماً ، وأخذ بثأر أهل البيت علیه السلام حتّى روى عن أبي عبد الله علیه السلام قال: (مَا امْتَشَطَتْ فِينَا هَاشِمِيَّةٌ وَ لَا اخْتَضَبَت ، وَ لَا رُئِيَ فِي دَارِ هَاشِمِيّ دُخَانٌ خَمْس حِجَجٍ حَتَّى قُتِلَ عُبَيْد اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ ).
وَ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ ، عَنْ خَالِدِ ابن يَزِيدَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عُمْرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ عَلِيّ ابْن الْحُسَيْنِ ’ لَمَّا أُتِيَ بِرِّأُس عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَ رَأْس عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ خَرَّ سَاجِداً وَ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَدْرَكَ لِي ثَأْرِي مِنْ أَعْدَائِي وَ جُزى الْمُخْتَار خَيْراً.
وهكذا فإنّ الإمام علي بن الحسين علیه السلام أيّد بشكلٍ غير مباشرٍ هذه الثورة ، وقد عبّر عن ذلك في مخاطبته لعمّه محمّد بن الحنفيّة: (يَا عَمُّ ، لَوْ أَنَّ عَبْداً تَعَصَّبَ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ ، لَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ مؤازَرَتُهُ ، وَقَدْ وَلَّيْتُكَ هَذَا الْأَمْر ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ).
و استُشهد المختار في الرّابع عشر من شهر رمضان سنة سبع وستّين للهجرة ، بعدما قاتل مصعب بن الزبير و جيشه أشدّ قتال، حيث بعثه أخوه عبد الله بن الزبير إلى العراق للانتقام من المختار الثقفيّ.
ثورة مطرّف بن المغيرة [سنة77هـ]:
ثار مطرّف بن المغيرة بن شعبة [سنة77هـ]: على الحجّاج بن يوسف، وخلع عبد الملك بن مروان [ت86هـ]، ثمّ جمع أصحابه فقال لهم: من كان منكم على رأيي ، فليتابعني نقاتل الظلمة ، حتّى إذا جمع الله أمرنا كان الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبّوا ، فبايعه أصحابه وخرج بهم ، فوصل خبرهم إلى الحجّاج فأرسل إليهم من قاتلهم في بعض جهات أصبهان ، فتمزقوا ، وقتل مطرّف.
ثورة عبد الرّحمن بن محمّد بن الأشعث [سنة 81هـ]
كان السخط الجماهيريّ يتصاعد بمرور الأيّام ضدّ بني اُميّة لما ارتكبوا في كربلاء ، وممّن استغلّ هذه الأجواء الملتهبة عبد الرّحمن ابن محمّد بن الأشعث بن قيس الكنديّ [ت83هـ] ، فتمرّد على حكومة عبد الملك بن مروان [ت86هـ] سنة إحدى وثمانين للهجرة واستمرّ إلى سنة ثلاث وثمانين للهجرة.
وذلك أنّ الحجاج أرسله لمحاربة رتبيل ملك سجستان على رأس جيش عراقيّ جرّار ، أحرز نصراً كبيراً فقرّر وقف الزحف ريثما يتمكّن من البلدان التي استولى عليها ثمّ يستمر في ملاحقة رتبيل .
إلّا أنّ هذا التوقف أزعج الحجّاح فبعد عدّة مراسلات بينهما كتب إليه كتاباً شديداً يأمره بملاحقة رتبيل، وإلّا فإنّ أمير الجيش أخوه إسحاق بن محمّد بن بن الأشعث .
غضب عبد الرّحمن من هذا الكتاب ، فخطب في الجيش وبيّن مثالب الحجّاج وما كاد أهل العراق يسمعون ذلك حتّى خلعوه وبايعوا عبد الرّحمن، فرجع الجيش لقتال الحجّاج ، فتقاتلا في البصرة بين كرّ وفرّ ، ثمّ ثقاتلا في ( دير الجماجم ) فهُزم عبد الرّحمن واُخمدت حركته.
ثورة الحارث بن سريج [ت 116هـ]
اشتهر الحارث بن سريح [ت126هـ] في حروب المسلمين ضدّ الأتراك في مناطق ما وراء النهر، كان من سكّان خراسان، وخرج على أميرها الأمويّ سنة 116هـ ، فلبس السواد، خالعاً الخليفة هشام بن عبد الملك [ ت125هـ], داعياً إلى كتاب الله وسنّة النبيّ والبيعة لآل البيت، فاستولى على المدن الواقعة على شواطئ (نهر سيحون) إلّا أنّ الوالي الأمويّ أسد بن عبد الله القَسْريّ اضطرّه إلى الانسحاب إلى(طخارستان) ومنها إلى بلاد (ما وراء النهر) سنة مائة وثمانية عشر للهجرة ، حيث أقام فيها اثنتي عشرة سنة، وأقنعه نصر بن سيَّار بقبول أمان الخليفة الأمويّ يزيد ابن الوليد، فعاد إلى (مرو) عاصمة (خراسان) ثمّ خرج مع جديع الكرمانيّ [ سنة 126هـ] واختلفا فدارت بينهما حرب فقتل الحارث.
ثورة زيد الشهيد [سنة122هـ] ( رضوان الله عليه )
أعلن زيد بن عليّ [ت122هـ] ثورته يوم الأرّبعاء الأوّل من صفر سنة مائة وأثنين وعشرين للهجرة ضدّ الحاكم الأمويّ هشام بن عبد الملك [ ت125هـ], وجالت فرسانه نواحي الكوفة ينادون بشعار الثورة: (يا منصور يا منصور ) إلّا أنّه لم يجتمع عنده سوى ثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً, ولم يثن ذلك عزمه.
واقبل يوسف بن عمر بجيشه, ودارت رحى حرّب غير متكافئة, ومع ذلك ثبت زيد بن علي ّ علیه السلام ومن معه في القتال, وصمدوا أمام جيش كبير في طوال اليوم بشجاعة وبطولة نادرة, فلمّا كان يوم الخميس الثاني من صفر واصل زيد القتال بضراوة شديدة حتّى أصابه سهم في جانب دماغه الأيسر, فحمله أصحابه ليلاً ثمّ استدعوا طبيباً واستكتموه، وما إن نزع السهم من دماغه حتّى استُشهد ودفنه أصحابه في وسط النهر ثمّ أجروا عليها الماء، إلّا أنّ الأعداء تمكّنوا من جسده فصلبوه.
وتعتبر ثورة زيد الشهيد استمراراً لثورة كربلاء حيث أقضّت مضاجع الظالمين ممّا جعلهم يسعون لتشويهها، لذلك شجبت بعض الرّوايات هذه الثورة المباركة ووصفتها بأنّها غير مشروعة ، إلّا أنّ علماء الرّجال والحديث أسقطوا تلك المرويّات من الاعتبار لضعفها سنداً.
ثورة يحيى بن زيد الشهيد [سنة 125هـ] ( رضوان الله عليهما )
لمّا استشهد زيد بن عليّ علیه السلام قام ولده يحيى [ت125هـ] بدفنه وضاقت عليه الكوفة وخاف أنْ يُؤخَذ غِيلةً فتوجّه إلى خراسان لأنّ فيها شيعة لأهل البيت، فاستقرّ في ( بلخ) من توابع خراسان أنذاك ولم يزل فيها حتّى هلك هشام بن عبدالملك [ت125هـ] و ولّي الوليد بن يزيد بن عبد الملك [ت126هـ]، فأمر بإلقاء القبض عليه فسجن، ثمّ اُطلق سراحة،ولمّا رأى إنتشار الظلم والفساد أعلن ثورته ضدّ الباطل وأهله ، فاُرسل إليه جيش قوامه عشرة آلاف فارس فتمكّن من أنْ يهزمهم وليس معه سوى سبعين رجلاً،بعدها نزل (الجوزجان) فسرّح إليه نصر بن سيّار ثمانية آلاف فارس من أهل الشام وغيرهم، فالتقى الجمعان في قرية ( أرغوى ) و وقع قتالٌ شديدٌ ثلاثة أيّام بلياليها، فقُتل جميع أصحاب يحيى ، وأُصيب بسهم في جبهته، فمات،وكانت شهادته وقت العصر يوم الجمعة سنة مائة وخمس وعشرين للهجرة ثمّ قطع رأسه وصلب واُرسل رأسه الشريف إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك [ت 126هـ]، ولمّا حكم أبو مسلم الخراسانيّ أنزل جسده وصلّى عليه ودفنه في قرية أرغوى في الجَوزجَان وله فيها مرقد يُعرف بـ ( إمام خُور ) ويعود بناؤه إلى العصر السلجوقيّ ، كما يبدو من الخطوط الكوفيّة التي تزيّنه حيث تعود إلى فنّ تلك الحقبة.
وقد أشار دعبل الخزاعيّ إلى قبره الشريف ، حيث قال :
وأخْرَى بأرْضِ الجَوْزَجَانِ مَحِلّها وَقبرٌ ببِا خَمْرى لَدَى القُرُباتِ
ثورة يزيد بن الوليد [سنة126هـ] في الشام
كان الوليد بن يزيد بن هشام منهمكاً في المحارم والمآثم والفواحش والمنكرات حتّى نقم عليه الناس وكان أشدّهم فيه قولاً يزيد بن الوليد بن عبد الملك [ت126هـ]، وكان يتظاهربالنسك والتواضع والصلاح والدين والورع ، فبايعه الناس ولمّا استوثق أمره ، قصد دمشق فدخلها في غيبة الوليد بن يزيد فبايعه أكثر أهلها ، ولمّا سمع الوليد بن يزيد بذلك لجأ إلى حصن فجاؤوا إليه ودخلوا الحصن وقتلوه ، ثمّ بايعوا يزيد بن الوليد بالخلافة الّا أنّه مات في نفس السنة.
ثورة جديع الكرمانيّ [ سنة 126هـ] في خراسان
ولمّا مات الخليفة الأمويّ يزيد بن الوليد [ ت 126هـ] خرج جديع الكرمانيّ زعيم اليمانيّة على بني أُميّة ، وانضمّ إليهم الحارث فأخرجوا نَصْر من (مرو) ثمّ انقلبت اليمانيّة على الحارث، ودارت حرب بين الفريقين، قتل خلالها الحارث أمام أسوار (مرو) واستفاد أبو مسلم الخراسانيّ من هذا الجوّ المضطرب فأعلن الثورة ضدّ الأمويّين من خراسان.
ثورة الخوارج ( طالب الحقّ) [ سنة 129 هـ] في اليمن
خرج عبد الله بن يحيى الكنديّ الأعور[ ت130 هـ] الذي يُسميّ بـ (طالب الحقّ) على مروان بن محمّد بن مروان بن الحكم [ت132هـ] فغلب على حضرموت واجتمع إليه الأباضيّة ثمّ سار إلى صنعاء وبها القاسم بن عمر الثقفيّ فالتقى الجمعان واشتدّ القتال ثمّ انهزم القاسم بن عمر وكثر القتل في جنده وتبعه طالب الحقّ واستولى على صنعاء فجبى الأموال وجهّز إلى مكّة عشرة آلاف ، واستولى على مكّة ثمّ على المدينة المنورة فارسل إليه مروان جيشاً وبعد كرٍّ وفرٍّ قتل طالب الحقّ في اليمن.
ولمّا خرج طالب الحقّ باليمن وهو من رؤساء الخوارج قيل للصادق× : نرجو أنْ يكون هذا اليمانيّ؟ فقال: لا ، اليمانيّ يتوالّى عليّاً، وهذا يبرّأ نه.
ثورة أبي مسلم الخراسانيّ [سنة 129هـ] ( وسقوط الدولة الأمويّة )
يعتبر أبو مسلم [ت137هـ] مؤسّس الدولة العبّاسيّة ، وأحد كبار القادة، ثار على بني أميّة وأطاح بآخر سلاطينها.
كان أوّل ظهوره بمدينة ( مرو ) يوم الجمعة في شهر رمضان سنة مائة وتسع وعشرين للهجرة ومعه خمسون رجلاً ، وكان والي خراسان نصر بن سيّار الليثيّ فكتب إلى الخليفة مروان بن محمّد [ت132هـ] يستنصره ، إلّا أنّ مروان كان مشغولاً عنه بغيره ،ثمّ كتب له ثانيةً وثالثةً من دون جوابٍ، واشتدّت شوكة أبي مسلم فهرب نصر بن سيّارإلى العراق .
وفي سنة مائة وأثنين وثلاثين للهجرة، استولى على نيسابور، وصفت له خراسان،ودعا لدولة بني العبّاس تحت شعار ( يا لثارات الحسين ) ثمّ سيّر العساكر بإمرة قحطبة بن شبيب الطائيّ لمقاتلة الخليفة مروان فسار إليه مروان بعسكره، ونزل بالزاب (بين الموصل وإربل) وتصاول الجمعان، فانهزم الجيش الأمويّ، وفرّ مروان إلى الموصل، ومنها إلى حرّان فحمص فدمشق ففلسطين وانتهى إلى بوصير (من أعمال مصر) فقتله فيها عمرو بن إسماعيل المراديّ الجرجانيّ .
أبو مسلم الخراسانيّ والإمام الصادق علیه السلام
أخّر القائدان العسكريّان أبو مسلم الخراسانيّ وأبو سلمة الخلّال إعلان الإنتصار على الجيش الأمويّ ريثما يتمّ ترتيب انتخاب الخليفة ، فبعث أبو مسلم الخراسانيّ إلى الإمام الصادق علیه السلام بالكتاب التالي : أنّي قد أظهرتُ الكلمةَ ودعوتُ الناسَ عن مولاة بني أميّة إلى مولاة أهل البيت فإنْ رغبتَ فيه فلا مزيدٌ عليك .
فأجابه الإمام الصادق علیه السلام بكلمتين مختصرتين: ( مَا أنْتَ مِنْ رِجَالِي وَلَا الزَمَانُ زَمَانِي ) فَحَادَ أبو مسلم إلى العبّاسيّين وأوكل إليهم زمامَ الأمور.
كما رفض الإمام الصادق علیه السلام عرض أبي سلمة الخلّال وأحرق رسالته ولم يُجب عليها، وقد قُتِل أبو سلمة الخلّال بتدبير من أبي مسلم الخراسانيّ في صراعٍ بين قادة الجيش على السلطة .
وقد أدراك الإمام الصادق علیه السلام خطورةَ الأوضاع الرّاهنة أنذاك ممّا جعله يتّخذ تلك المواقف التي سرعان ما اثبتت الأيّام حكمتها وصوابها .
أبو مسلم الخراسانيّ والعبّاسيين
لمّا رفض الإمام الصادق علیه السلام تولّي الأمر عَمَدَ أبو مسلم الخراسانيّ إلى بني العبّاس فقلّد السفّاح العبّاسيّ وحمل إليه رأس مروان، وزالت الدولة الأمويّة ( سنة 132 هـ ) وصفا الملك للسفّاح [ت136هـ] إلى أنْ هلك ، فخلفه أخوه المنصور[ت158هـ]
أبو مسلم الخراسانيّ والمنصور العبّاسيّ
تولّى المنصور العبّاسيّ الحكم سنة (136هـ) وكانت بينه وبين أبي مسلم الخرسانيّ ضغينةٌ مضافاً إلى توجّسه الخيفةَ منه أنْ يطمع بالملك ، فدعاه المنصور إلى بغداد فرفض ،فأعدّ له مكيدةً وأغراه بالمجيء إلى بغداد ، بعد أنْ جرّده من جميع مناصبه العسكريّة.
ولمّا دخل أبو مسلم الخراسانيّ على المنصور قابله بقساوةٍ بالغةٍ وأخذ يعدّد عليه أعماله وأبو مسلم يعتذر عن ذلك.
ثمّ أشار إلى حرّاسه بقتله ، فدخلوا وبأيديهم السيوف فقال للمنصور متوسّلاً : استبقني لعدوّك، فصاح به: وأيّ عدّوٍ أعدى لي منك؟! فقتله.
ثورة محمّد بن عبد الله المحض ( النفس الزكيّة ) [سنة145هـ] في المدينة
تعتبر ثورة محمّد النفس الزكيّة [ت145هـ] من أقوى الثورات في القرن الثاني الهجريّ، حيث بايعه عامّة الهاشمييّن باستثناء الإمام الصادق علیه السلام، كما بايعه جملة من العلماء والفقهاء في طليعتهم أبو حنيفة النعمان، محمّد بن عجلان فقيه أهل المدينة، أبوبكر بن أبي سبرة الفقيه، عبدالله بن جعد، هشام بن عروة، عبدالله بن عمر، واصل بن عطاء، عمرو بن عبيد، وغيرهم .
خرج محمّد النفس الزكيّة ومن معه على الحاكم العبّاسيّ المنصور [ت158هـ] فقاتل جيشه قتالاً شديداً، حتّى استشهد عند أحجار الزيت بقرب المدينة المنوّرة، واحتزّوا رأسه، وكان مقتله يوم الإثنين بعد العصر، لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة مائة وخمس وأربعين للهجرة، وقبره بالبقيع.
ثورة إبراهيم بن عبد الله المحض [ سنة145هـ] في البصرة
إبراهيم بن عبد الله بن الحسن المثنى [145هـ] (أحمر العينين ) ذو فقةٍ وأدبٍ وعلمٍ ودينٍ، أعلن ثورته من البصرة وتغلّب عليها وانضمّ إليه أربعة الآف وقيل : مائة ألف مقاتل ، سير الجحافل إلى الأهواز وفارس وواسط ، إستمرّت ثورته ثلاثة أشهر إلا خمسة أيّام، وكان أبو حنيفة النعمان يجهر في الدعوة إلى الخروج معه وأشار عليه بالتوجّه إلى الكوفة سراً فنزل باخمرى بجحفلٍ عظيمٍ وفيها بلغه نَعْي أخيه ( محمّد النفس الزكيّة ) فجزع عليه جزعاً شديداً ثمّ دار القتال مع الجيش العبّاسيّ الذي صار يتقهقر فبلغ المنصور ذلك وكان في الكوفة فخشي على نفسه واستعدّ للهرب قائلاً : (أين قول صادقهم ) مشيراً إلى قول الصادق علیه السلام: إنّ الملك يصير إلى بني العبّاس، وبينما الحال هذه وإذا بجيش المنصور يحاصر إبراهيم وجنده فيصاب إبراهيم بسهم يُستشهد على إثره ،وتفرّق أصحابه، وحُمل رأسه الشريف إلى المنصور فوضعه بين يديه وأمر به فنصب في السوق: ثمّ أمر أنْ يُحمل إلى أبيه (عبد الله المحض [ ت145هـ] ) إلى سجنه في الهاشميّة. وقيل: حُمل رأس إبراهيم إلى مصر.
دفن إبراهيم في باخمرى حيث له فيها قبر مشيّد يُزار
وقد نصّ على ذلك ياقوت الحمويّ [ت 626هـ]:
قال: باخمرى - بالرّاء - موضع بين الكوفة و واسط وهو إلى الكوفة أقرب. قالوا: بين باخمرى والكوفة سبعة عشر فرسخاً ، بها كانت الوقعة بين أصحاب أبي جعفر المنصور وإبراهيم بن عبد الله بن حسن بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقتل إبراهيم هناك فقبره به إلى الآن يزار، وإيّاها عنى دعبل بن عليّ الخزاعيّ [ ت 246هـ ]بقوله:
وَقَبْرٌ بأرْضِ الجَوْزَجَانِ مَحِلُّهُ وَقَبْرٌ بِباخَمْرا لَدَى الغُرُبَاتِ
وقال نجم الدين أبو الحسن عليّ العلويّ العمريّ النّسابة [ت709هـ]: وكان إبراهيم يكنّى أبا الحسن قتل بأرض باخمرى ، وهي قرية تقارب الكوفة
وقال ابن عنبة [ت 828هـ] : وأعقب عبد الله المحض من ستّة رّجال ، محمّد ذي النفس الزكيّة ، وإبراهيم قَتِيلُ باخمرى ، وموسى الجون.
قال العلّامة المجلسيّ : فسار إبراهيم ، حتّى نزل باخمرى وهي من الكوفة على ستّة عشر فرسخاً ، ووقع القتال فيه ... وقتل إبراهيم وتفرّق أصحابه ، واُتي برأسه إلى المنصور.
وقبر إبراهيم مزار مشيّدٌ عامرٌ في (مقاطعة القيميّة) تبعد عن الرميثة 10 كيلو متر.
ثورة الحسين بن عليٍّ شهيد فخ ّ[سنة169هـ]
خرج الحسين بن عليّ [ت169هـ] صاحب فخّ ومعه جماعة كثيرة من العلوييّن في أيّام موسى الهاديّ [ حكم من 169 إلى 170] بن محمّد المهديّ بن أبي جعفر المنصور، وذلك بالمدينة في ذي القعدة سنة مائة وتسع وستيّن للهجرة ، بعد موت المهديّ[ ت169هـ] بمكّة.
أعلن ثورته كردّ فعل إزاء الظلم والقهر والقتل الذي مارسته السلطة العبّاسيّة وسرعان ما سيطر على المدينة المنوّرة ليرفع الأذان مشتملاً على: (حيّ على خير العمل) ودعا الناس إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ورفع شعار: (الدعوة إلى الرضا من آل محمّد) فزحف نحوه الجيش العبّاسيّ الجرّار بقيادة سليمان بن جعفر فحاصره في مكان يُدعى ( فخّ ) و وقوعت مذبحة مفجعة.
روي عن الإمام الرضا علیه السلام: لَمْ يَكُن لَنَا بَعْدَ الْطَّفِ مَصْرَعٌ أَعْظَم مِن الفَخِّ.
ثورة إدريس ودولة الأدارسة (172-364هـ) - (789-975م)
بعد استشهاد محمّد النفس الزكيّة اتّجه باقي إخوته متخفّين إلى أنحاء عديدة وظلّوا يحضّرون للثورة ، ولمّا حدثت واقعة فخٍّ الأليمة نجا منها إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى وبقي متخفّياً يتنقل من بلدٍ إلى آخر حتّى عهد هارون الرشيد [ت193هـ] حيث اتّجه إدريس إلى المغرب وأسس دولة الأدارسة فاغتيل بالسمّ بعد فترة وجيزة فجاء من بعده ابنه إدريس الثاني وظلّت دولة الأدارسة قائمةً مدى قرنٍ من الزمن ، وهي أوّل دولة شيعيّة.
ثورة محمّد بن القاسم( صاحب طالقان ) [ سنة 219هـ]
يُعدّ محمّد بن القاسم من زهّاد العلوييّن وعبّادهم وقد اشتهر بتقواه وورعه ، جاءت ثورته ردّ فعلٍ لما مارسه المعتصم العبّاسيّ [ت227هـ] من ضغوط أجبرته على الخروج من الكوفة إلى خراسان.
فخرج في سنة مائتين وتسع عشر للهجرة ، ثائراً في منطقة طالقان من خراسان فالتفّت حوله حشود بشريّة بلغت أربعين ألفاً ومع ذلك فإنّ ثورته أخفقت وتشتّت جيشه وألقي القبض عليه من قبل حكّام الإقليم الذين كانوا من الأُسرة الطاهريّة ليُساق إلى العاصمة العبّاسيّة الجديدة سامراء.
ثورة يحيى بن عمر الطالبيّ [ت250هـ]
عُرف يحيى بن عمر الطالبيّ بين أهل الكوفة بزهده وتقواه ممّا جعل له منزلة كبيرة في القلوب، وقد أثار ذلك النظام الحاكم فتعرّض إلى شتّى أنواع الضغوط والإضطهاد من المتوكّل العبّاسيّ وضبّاطه الأتراك أصحاب النفوذ الكبير أنذاك ، فأعلن ثورته في الكوفة باسطاً نفوذه عليها سائراً بالقسط في الرعيّة فازداد حبّ الناس له بسبب ما أشاعه فيهم من العدل والإنصاف، فسيّرت الدولة العبّاسية جيشاً بقيادة محمّد بن عبدالله بن طاهر لقمع ثورته وبعد معارك ضارية استشهد، وعمّ الحزن أرجاء مدينة الكوفة ورثاه الكثير من شعرائها بأبياتٍ مشجية.
نتائج البحث
لقد غذتْ النهضة الحسينيّة جميع الثورات فشحنت العزائم وأحيت الإرادات وأيقضت الشعور لدى المستضعفين والمظلومين فتحوّلت ملحمة كربلاء إلى نبراسٍ تُفجّر الثورات عبر التاريخ فلم تقف تلك النهضة الّتي حدثت في عاشوراء على مقطع زمنيِّ معيّن بل تحرّكت في ضمير كلّ إنسانٍ حيّ حتّى عادت رمزاً يستلهم منها جميع الأحرار في العالم .
وفي عصرنا الحاضر إنبثقت الثورة الإسلاميّة في إيران بقيادة الإمام الخميني (قدّس سرّه) حيث استلهم من ثورة الطفّ رؤاى وقيم ثورته الإسلاميّة حتى أنّه (قدّس سرّه) كان يردّد في مناسبات عديدة مقولته الشهيرة: (كلّ مَا لَدَيْنا مِنْ الإمَام الحُسَيْن علیه السلام).
لقد ألقت النهضة الحسينيّة بظِلالها على الواقع الإسلاميّ بمختلف اتّجاهاته وتيّاراته فهذا العالم الأزهريّ الشيخ محمّد عبده يقول: (لَوْ لَا الحُسيْنُ لَمَا بَقِي لِهَذا الديِنِ مِنْ أثرٍ)
ويقول عبّاس محمود العقّاد: (إنَّ فلسفة تعظيم وإحياء ذكر سيّد الشهداء مكافأة يقدّمها التأريخ لأبطال عاشوراء ، لأنّ العطف الإنسانيَّ هو كلّ ما يملك التأريخ من جزاءٍ وهو الثروة الوحيدة التي يحتفظ بها الخلود)
وهذا يعطي بكلّ وضوحٍ مدى تفاعل الثورات العربيّة ( النزيهة ) المعاصرة مع ثورة الطفّ .
كما أن تلك المباديء التي انطلقت من الثورة الحسينيّة توجّهت نحو الآخر فثأثر بها مع عدم إنتمائه للإمام الحسين علیه السلام عقيدة وديناً فهذا غاندي الذي استطاع دحر الإحتلال البريطانيّ من بلاده بثورة سلميّة ، استقتْ مِنْ مباديء الثورة الحسينية قيمة (المظلوميّة): حيث قال: ( تَعَلَّمْتُ مِن الحُسَيْن كَيْفَ أكونُ مَظلومَاً فَأنْتَصِر ).
المصدر:کتاب السلم و اللاعنف في الاسلام و امتدادهما في النهضة الحسینیة تألیف سماحة السید قاسم الجلالي