أهمّية قاعدة لا ضرر في الدين الاسلامي الحنيف
جاء الدين الاسلامي الحنيف بتشريع إلهيّ خالد أحدث رُقيّاً واسعاً في المجتمعات البشريّة، فكان آخر تشريع سماويّ جاء به آخر أنبياء اللّه تعالى، فلذا كان و لابدّ أن يكون نظاماً منسجماً مع نواميس الفطرة، وقانوناً متكاملاً يضمن للانسان جميع نواحي حياته : من الحقوق الاجتماعية والفردية، كما يضمن له كرامته وحريته وسائر الحقوق التي يفتقر اليها في تعايشه مع الآخرين.
وقد بلَغَ من حرص الاسلام على حفظ كافة حقوق الانسان أن شرّع قانوناً يحرّم كلَّ ما يُعدّ ضرراً على البشريّة، وبذلك يكون الدين الاسلامي الحنيف أوّلّ من أسسّ نظام حقوق الانسان المتمثل بقاعدة نفي الضرر والضِرار، التي تعتبر من أهمّ ركائز المجتمع السليم حيث إنّها توفر أسباب الحياة الطبيعيه، فهي تنظم الروابط الاجتماعية والفردية، وتبيّن حدود تعامل الناس مع بعضهم البعض الآخر، وتعيّن صلاحياتهم، وتدفع الإختلافات الناشئة فيما بينهم برفع أسبابها ومولّداتها، وتعطي كلّ ذي حقّ حقّه، وهي تقف أمام القويّ والظالم حينما يريدان إعمال القوة والظلم.
وقد اعتمد فقهاء الفريقين على هذه القاعدة في فروع وأحكام كثيرة ترتبط مباشرة بحفظ النظام العام الذي لولاه لعمّت الفوضى، وإختلّت النُظُم.
قال الشهيد الأوّل : إنّ فروعها كثيرة حتى أنّ قاعدة (المشقة موجبة لليسر) تكاد تداخل هذه القاعدة.
منها : (وجوب تمكين الإمام لينتفي به الظلم، وصلح المشركين، ورد مهاجريهم دون مهاجرينا، وجواز رَدّ المعيب وأخذ أرشه، وفسخ النكاح بالعيب، والحجر على المفلس والصغير، والسفيه، والمجنون...الخ).
وقد أحصى السيد مير فتاح(رحمه الله) فروعاً كثيرة وهامّة تتجاوز الستين فرعاً، منها : لزوم ديّة المُتترس المقتول على المجاهدين، وسقوط النهي عن المنكر، وسقوط إقامة الحدود مع عدم الأمن، وعدم الإجبار على القسمة مع تحقق الضرر، وعدم لزوم أداء الشهادة كذلك، وحرمة السحر والغش والتدليس، ومشروعية التقاصّ...).
وغير ذلك من الفروع الكثيرة التي ذكرها علماؤنا في مختلف أبواب الفقه مما يطول نقله.
وأما علماء العامة فنقتصر من أقوالهم ـ في هذا الصدد ـ على ما ذكره السيوطي من أنّ قاعدة نفي الضرر ينبني عليها كثير من أبواب الفقه ممثلاً لذلك بشواهد كثيرة منها : الرّد بالعيب، وجميع أنواع الخيار، والحجر بأنواعه والتعزير، والشُفعة، والقصاص، والحدود، والكفارات... وقد فرّع عليها قواعد اُخر منها قاعدة : (الضرورات تبيح المحضورات) ومن ثمّ جاز أكل الميتة عند المخمصة، واساغة اللقمة بالخمر، والتلفظ بكلمة الكفر إكراهاً، واتلاف المال...).
نعم لا تخفى الأهمّية البالغة لهذه القاعدة العامة بالنسبة للمجتمع البشري فالإحتكار الذي يُعدُّ من أخطر الظواهر الإجتماعية حيث إنّه يؤدي الى إنهيار المجتمع إقتصادياً، وغير ذلك من المفاسد الإجتماعية الواضحة المترتبة عليه، تحرّمه هذه القاعدة.
وكذا الدخول في السوم الذي يؤدي الى عواقب غير حميده، من الشحناء والعداوة والبغضاء، فهو محرّم بقاعدة نفي الضرر.
كما أنّ هذه القاعدة هي المستند في بعض الخيارات، كخيار الغبن إذ لا نص فيه بخصوصه، وقد صرّح بذلك الشهيد الثاني (734 ـ 786هـ ). كما أنّها مستند حرمة الخطبة بعد إجابة الغير.
وهي دليل مشروعيّة القصاص الذي يُبتنى عليه استقرار الأمن، وانعدام الجريمة، وهي مدرك مشروعيّة الحدود من قبيل قطع يد السارق في ربع دينار، مع أنّها تُضمن بيد مثلها، أو خمسمائة دينار لما يترتّب على ذلك من فوائد وآثار إجتماعية كبرى.
وغير ذلك من الأفعال والعوامل السلبية التي استدل الفقهاء على حرمتها بالقاعدة المذكورة، وهي كثيرة في مختلف أبواب الفقه.
وتتضح أهمّية هذه القاعدة البالغة من خلال تقديم أغلب الفقهاء إياها على قاعدة (الناس مسلطون على أموالهم) وعليه فليس بإمكان المالك إساءة الإستفادة من قاعدة السلطنة ليورد الضرر على الغير، كما أراد فعل ذلك سَمرة بن جندب; بل قدّمها الفقهاء على سائر أدلة العناوين الأولية.
المصدر: کتاب قاعدة لاضرر و لا ضرار
تقرير أبحاث المُحقّق الاُصُوليّ الكَبيرآية اللّه العُظمى الشيخ ضياء الدين العراقيّ(قدس سره)(1278ـ1361هـ ق)
تأليف الفقيه المحقّق آية اللّه السيّد مرتضى الموسويّ الخلخاليّ (1324 ـ اعتقل 1412هـ .ق)
تحقيق وتعليق سماحة العلامة السيد قاسم الحُسينيّ الجلالي