مفاد الهيئة التركيبية لقاعدة لا ضرر و لا ضرار
فالعمدة جهة الدلالة، فنقول :
بعدما عرفت معنى الكلمتين في الجهة الاُولى فتُذكر لها وجوه من المعاني.
الوجه الأوّل : أن يُؤخذ بظاهرها من نفي حقيقة الضَرر، لكن إدعاءً; لكون الأفعال الضرريّة تُنزّل منزلة العدم في عدم التأثير في ما هو أثرها من الصحّة والطهارة وأمثالهما ممّا يترتّب على المعاملات والعبادات الضررية. وهذا هو الظاهر من عبارة الكفاية.
الوجه الثاني : أنّه بعد تعذّر الحقيقة يكون معناه : أنّ الشارع لم يُشرّع الضرر، أي : الحكم الذي يلزم من العمل به الضرر.
وهذا مختار الشيخ(رحمه الله) في الرسائل، وفي رسالته الخاصة لشرح القاعدة.
والظاهر منه : التزام التجوّز إما بتقدير الحكم أو بإرادته من لفظ الضرر.
الوجه الثالث : أنْ يكون المراد منها تحريم الضرر، كما تُجْعل الجملة المثبتة كناية عن الأمر.
وقد ذكره الشيخ وإن لم يرتضه.
الوجه الرابع : أن يُراد منه نفي حقيقة الضرر حقيقةً، أخذاً بالحقيقة مطلقاً.
لكن لابدّ من تقييد إطلاقه; لعدم صدقه إلاّ في الضرر المترتّب على الحكم، من غير احتياج اليه حتى على المعنى الثاني; لأنّ المنفيّ ـ عليه ـ هو الحكم الذي لو عُمِل به لوُجِد الضرر.
فمتعلّق النفي هو سبب الضرر الذي بيد الشارع، فلا ينافيه وقوع بعض الضرر في الخارج.
لكن على هذا يكون المنفيُّ هو نفس الضرر بحقيقته، ولمّا لم يصدق ـ لوقوع بعض الضرر في الخارج ـ فلا بُدَّ وأن يُحمل على بعض أفراد الضرر، وهو خصوص ما كان يقع لأجل حكم الشارع الباعث لفعل العبد، أو لأجل عدم حكمه الرادع عن الوقوع، فهو يخبر عن انتفاء خصوص هذين القسمين حقيقةً; لأنّه لم يجعل السبب وهو الحكم الباعث، ولم يترك الرادع الزاجِرَ الفعليّ، وهو الحكم المانع عن الوقوع في الخارج بجعل الحكم.
فهو نظير إخباره عن عدم استحقاق العبد للعقاب في الشبهة التحريمية ـ مثلاً ـ ; لأجل ترك سَبَبِهِ وهو جعل إيجاب الإحتياط.
فهو يُخبر عن عدم وجود الضرر المترتب على فعله، وهو الجعلُ تارةً، وعدمُه اُخرى.
ومن ذلك عَرَفت دلالة القاعدة ـ على هذا ـ على نفي الضرر المترتب على عدم الجعل، فإنّه مُخبر ـ حينئذ ـ عن عدم ذلك الضرر بقلب عدمَ الجعل بالجعل، بخلافه على الوجوه السابقة.
فأمّا على الثالث، فواضح.
وأمّا على الأوّلين; فلأنّ المنفيّ ـ أو ما به نُزّل الشيءُ منزلة المنفيِّ ـ هو الحكم والأثر، كالصحة والطهارة، وعدم الجعل ليس حكماً ولا أثراً; لأنّها عبارة عن المجعول وإن كان عدماً.
فعلى المختار من عدم مجعوليّة اللزوم، ولو بتبع جعل وجوب الوفاء ـ بل هو منتزع عن عدم جعل حقّ الفسخ المستكشف من إطلاقه الى بعد الفسخ ـ لو ترتّب على عدم الجعل ضرر تنفيه القاعدة بكشفها عن تبديله بالجعل، على المعنى الأخير دون السوابق.
والأظهر من هذه الوجوه هو الأخير.
مناقشة القول الثالث
أمّا الثالث، ففيه أوّلاً : إنّه يكون ـ حينئذ ـ من جملة أدلة حرمة الضرر، فهو كسائر العناوين المحرّمة التي لو تعلّق حكم آخر بنفس معنوناتها بعنوان آخر أو بذاتها، تدخل في باب التزاحم وباب إجتماع الأمر والنهي، ولا ربط له ـ حينئذ ـ بالامتنان ولا بالحكومة على الأدلة الأوّلية ولا الثانوية، ولا دال على نفي الآثار الوضعيّة، مع أنّ الأصحاب قد أجروا هذه القاعدة ـ كما في نظائرها ـ مجرى الامتنان، وقالوا : بتقدّمها على الأدلة الأوّلية ولو بنحو الحكومة، وطبّقوها في نفي الأحكام الوضعيّة كما هو كذلك في كثير من أخبار الباب.
بخلافه على التقارير الاُخر، فإنّها لا توجب رفع اليد عمّا نسبنا الى الأصحاب، ولا توجب رفع اليد عن تطبيق الأخبار، ولا من ظهورها في الامتنان.
وثانياً : ـ مع قطع النظر عن ذلك ـ نفس الحمل على الحرمة خلاف الظاهر.
أمّا على المشهور من لزوم استعمال الجملة الخبريّة في الإنشاء فواضح.
وأمّا على مختارنا من عدم لزوم ذلك فالمصحّح لهذا الإخبار هو القطع بوجود المقتضي، وهو التحريم، وحيثُ إنّ هذا المقدار غير كاف للإخبار عن عدم الضرر لإحتياجه الى إنضمام المقتضي الى سائر الشرائط الوجوديّة والعدميّة :
فإما أن يقال : بتحقّقها مع المقتضي دائماً، فهو كذب.
فلابُدّ وأن ينضمّ الى تحقّق المقتضي إدعاءُ تماميّة الشرائط; لكون الشأن أن يكون كذلك، فيخبر بمجرد التحريم، المقتضي لبيان أنّ الشأن أن يتمّ سائر مالهُ دخل في المخبر به، وهو عدم وقوع الضرر، أو عدم وقوع الكذب، أو عدم وقوع الزنا، فيما لو أخبر عن عدمهما، وهذا معنى أبلغيتة من النهي.
وهذا الإدعاء والعناية وإن لم يوجب تجوّزاً في اللفظ، لكنّه خلاف الظاهر أيضاً.
ولا يلزم ذلك على المختار من الوجوه وهو الأخير; لأنّه كلام حقيقيّ عن داع حقيقي بلا تجوز في اللفظ ولا عناية وإدعاء في الداعي; لانّه يُخبر عن عدم تحقق الضرر من قِبَلِهِ في الخارج بنفي علّة وقوعه من قبله وهو الجعل أو عدمه.
مناقشة مختار الشيخ الانصاري
وأما الثاني : فهو أردأ من السابق، فإنّه وإن لم يرد عليه الإشكال الأول، لكنّه مُستلزم للتجوّز في اللفظ، أو بالاضمار.
مناقشة مختار المحقق الخراساني
وأمّا الأوّل : فهو أردأ الكلّ ـ وإن لم يرد عليه الإشكال السابق المذكور أوّلاً ـ ; لأنّه بعد تصحيح مرامه ببركة بعض عبائره بأن يكون الضرر مرآة للأفعال الضررية حتى يُنزّل منزلة العدم في نفي الآثار التي في نفيها الامتنان.
يرد عليه أوّلاً : إنه لا مجال لجعل الضرر مرآة لذلك; لأنّه لابُدّ في المرآة أن يكون عنواناً للمرئيّ ولو ثانويّاً، وليس كذلك; لأنّ العنوان مطلقا هو ما يجوز حمله على المعنون ولا يُحمل الضرر على الأفعال، وإن حُمل عليها مُضِرّ.
دفع توهّم
وما تُوُهِّم : من كون المسببات التوليديّة عناوين لأسبابها فتصح المرآتية، فاسدٌ; لما ذكرنا من كون الملاك حمل العنوان على المعنون.
ومعلوم أنّ الإحراق والحرقة، أو الإضرار، لا يُحمل على الإلقاء والتلقي والضرب حتى يكون عنواناً; بخلاف المحرق والمضرّ.
وثانياً ـ على تقدير الإغماض عن ذلك وفرض قابليته للمرآتية : هو خلاف الظاهر; لأنّ الظاهر إرادة مصاديق الضرر لا أسبابه، إلاّ على نحو الكناية الذي هو خِلاف الظاهر.
والعمدة : هو الإشكال الأوّل.
فأردأ الوجوه هو هذا الوجه الذي استظهرناه من الكفاية.
والعَجبُ من بعض المعاصرين حيث نُقِلَ التزامُهُ بهذا الوجه إبتناءً على التوهم السابق، مع دفعه.
وأعجب منه حملُ عبارة الكفاية «على تنزيل الضرر منزلة العدم» الموجب للخُلف، والإشكال عليه، ولعلّه اشتبه من أوائل عبارة الكفاية ولم ينظر عبارته في بيان المراد من الآثار، فراجع.
عدم ثبوت كلمة «في الاسلام»
وإذا عرفت أنّ الأظهر هو ]الوجه[ الأخير فنقول :
حيثُ لم يثبت قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : (في الاسلام); للإرسال.
عدم ثبوت كلمة «على المؤمن»
ولا قولهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) : (على المؤمن); لضعف رواية ابن مُسكان.
حكومة القاعدة على سائر الأدلة
فعليه تكون الرواية في نفسها قابلة لسوقها مقام الامتنان وعدمه، وقابلةً لحكومتها على سائر الأدلة.
ولكونها مقدّمة للأخصّية.
لكنّ السياق يدلُّ على الامتنان، والحكومة كما سبق.
المصدر: کتاب قاعدة لاضرر و لا ضرار
تقرير أبحاث المُحقّق الاُصُوليّ الكَبيرآية اللّه العُظمى الشيخ ضياء الدين العراقيّ(قدس سره)(1278ـ1361هـ ق)
تأليف الفقيه المحقّق آية اللّه السيّد مرتضى الموسويّ الخلخاليّ (1324 ـ اعتقل 1412هـ .ق)
تحقيق وتعليق سماحة العلامة السيد قاسم الحُسينيّ الجلالي