التنبيه الأوّل فی قاعدة لا ضرر: في فروع الاقدام
إنّه لا نحتاج الى بيان الفرق بين المُقدم وبين غير المقدم مع الإلتزام بحكومة القاعدة على سائر الأدلّة بقضيّة الامتنان وأمثاله; لأنّ القواعد المُغنية عن قاعدة لا ضرر هي بنفسها فارق بين صورة الإقدام وعدمه.
إشكال :
حيثُ إنّ المشهور القائلين بتماميّة القاعدة فرّقوا بين المعاملة الضررية، فحكموا بعدم الخيار في صورة العلم والإقدام; لعدم جريان القاعدة، وبين غسل الجنابة فحكموا بعدم وجوبه لو كان ضررياً، وإن كان مُقدِماً على موجبه ـ وهو الجنابة ـ مع الالتفات والعلم.
فاستشكل عليهم بأنّه لو كان وجه عدم الجريان في المسألة الاُولى جهة الإقدام فكذلك يلزم عدم الجريان في المسألة الثانية، وعدم ارتفاع وجوب الغسل، على فرض الإقدام مع العلم.
وإن لم يكن المُقدم خارجاً فاللازم جريان القاعدة في المسألة الاُولى، والحكم بالخيار، فلا وجه للفرق بين المُقدم على الموضوع الضرريّ، وبين المُقدم على موجب الحكم الضرريّ.
جواب المحقّق الخراسانيّ عن الإشكال
وقد أجاب عن هذه العويصة اُستاذنا الخراساني(قدس سره): بأنّ صِدق الإقدام على الضرر في المعاملة الغبنيّة في صورة العلم غير متوقف على لزوم المعاملة وعدم جعل حقّ الفسخ; بل الإقدام على تملّك مال بثمن لا يساويه، إقدام على الضرر، ولو أمكنه الرجوع والفسخ، فإذا صدق ـ مع قطع النظر عن اللزوم وعدم جعل حقّ الفسخ ـ فَيَمنَع من جريان القاعدة لكي تفيد اللزوم، أو جعل حقّ الفسخ.
بخلافه في مسألة الجنابة فإنّ الإقدام عليها ليس إقداماً على الضرر مالم يُلحظ ترتب وجوب الغسل عليها، فصدق الإقدام على الضرر موقوف على الوجوب، وهو موقوف على عدم جريان القاعدة، وهو موقوف على صدق الإقدام على الضرر، فيستلزم الصدق للدور فلا يتمُّ، فلا مانع من جريان القاعدة.
ردّ جواب المحقّق الخراساني
ولكن فيه، أوّلاً : عدم الفرق بينهما فيما ذكره ـ أيضاً ـ ، وبيانه يتوقف على توضيح حكم صورة الجهل في المعاملة.
وحاصله : أنّه لا إشكال في حدوث الضرر عند الجهل ـ على ما قرّره الإستاد (قدس سره) ـ ولا يلتزم أحد برفعه بلا ضرر، مع القول بكون الفسخ حلاً من حينه لا من حين العقد، فالذي يرفعه لا ضرر بقاء ذلك الحادث ـ وحينئذ ـ فبمقتضى لا ضرر له الفسخ الرافع لبقاء الضرر الحادث، و له الإمضاء الموجب لصدق الإقدام على بقاء ذلك الضرر، وهو الموجب لعدم جريان القاعدة حينئذ.
فعلم : أنّ حدوث الضرر ـ الذي رفعه فسخ العقد من أوّله ـ ليس مجرى قاعدة لا ضرر، وإن كان غير مقدم بالنسبة الى ذلك الحدوث.
فصدق الإقدام وعدمه بالنسبة اليه غير مُثمر; لعدم الإنطباق من أصله، لكن حيث إنّ بقائه مجرى لها ـ ولم يُلتفت اليه في فرض الجهل بدء الأمر فلم يصدق الإقدام بالنسبة اليه أيضاً ـ فلم يمنع مانع من تطبيق القاعدة الموجبة لحقّ الفسخ القابل معه تدارك البقاء، نعم لو لم يفسخ فهو بالنسبة الى ما بعد مقدار إمكان وقوع الفسخ مُقدم فترتفع القاعدة.
فإذا عرفت ذلك نقول : إنّ العالم المقدم من بدء الأمر أمّا بالنسبة الى حدوث الضرر فلم يكن مجرى القاعدة ـ حتى في حال الجهل ـ لكي يقال بمانعية إقدامه على الحدوث.
وأمّا بالنسبة الى بقاء هذا الحادث ـ الذي هو مجراها ـ لا يصدق الإقدام على بقاء الضرر بمجرد الإقدام على الحدوث، إلاّ على تقدير لزوم العقد وعدم جعل حقّ الفسخ وذلك متوقف على عدم جريان القاعدة المنتجة لنفي اللزوم أو جعل حقّ الفسخ، وهذا متوقف على صدق الإقدام على بقاء الضرر. فالصدق هنا ـ أيضاً ـ مستلزم للدور، فلا فرق بين المسألتين.
دفعُ وهم
ولا يوهمُك عدم توقف صدق الإقدام ـ على أوّل الضرر في المعاملة الغبنية ـ على اللّزوم، فإنّ هذا الصدق غير مفيد، والمفيد متوقف، فافهم.
وفيه ثانياً : إنّه لِمَ لَمْ يقرَّب الدور في جريان القاعدة، حتى تكون لاستلزام المحال غير جارية؟!
وبيانه : أنّها متوقفة على عدم صدق الإقدام، وهو متوقف على عدم ثبوت وجوب الغسل فعلياً، وهو متوقف على جريان القاعدة.
وفيه ثالثاً : أنّه قد تقدّم مِراراً في طيّ المباحث أنّه إذا تزاحم مقتضيان أحدهما تنجيزيّ والآخر تعليقيّ تقدّم الأوّل; لعدم تأثير الثاني في عرض الأوّل، فلا مزاحم له حقيقة، مثل ما لو نذر بذل مال للفقراء، وكانت استطاعته الى الحج متوقفة على عدم البذل.
فمقتضى النذر وجوب البذل من غير تعليق شرعاً، ومقتضى دليل الحج وجوب الحج معلّقاً على الاستطاعة.
فاللازم تقديم الأوّل; لأنّه مستلزم لرفع اليد عن مقتضى الإستطاعة; لعدم تماميتها.
بخلاف تقديم الثاني فإنّه مستلزم لرفع اليد عن مقتضى النذر، مع عدم قصور في بعث دليله; للاطلاق.
نعم لو وجب الحجّ مطلقاً، وكانت الاستطاعة من مقدّمات الوجود فقط لتزاحما.
وصغريات هذا المطلب كثيرة، منها ما نحن فيه، فإنّ دليل وجوب الغسل ودليل لزوم المعاملة وعدم جواز الفسخ مطلق لم يعلّق على عدم لزوم الضرر وأمثاله، ودليل القاعدة معلّق على عدم صدق الإقدام بحسب سوقه في مقام الإمتنان.
فالمقتضي لثبوت التكليف مطلق، ومقتضي رفعه معلّق على عدم صدق الإقدام، فلو قُدِّم الأوّل لزم رفع اليد عن الثاني; لعدم تماميّة ما عُلق عليه ولو بسبب التقديم.
ولو قُدّم الثاني لزم رفع اليد عن الأوّل من غير سبب، بل تخصيصاً وخروجاً.
نعم لو كان الثاني ـ أيضاً ـ مطلقاً كان الثاني حاكماً أو مخصصاً، أو معارضاً بالعموم من وجه، أو مزاحماً على المباني والأنظار كما لو كان الأوّل معلقاً على عدم استلزام الضرر لكان التكليف مرتفعاً ولو لم يجر لا ضرر. ولو كان معلقاً على عدم جريان لا ضرر لتزاحما وتعارضا.
هذا كلّه على مبنى المشهور.
وأمّا على ما حقّقناه ـ على تقدير تمامية القاعدة ـ من عدم شمولها إلاّ لنفي الضرر بنفي المجعول فلا تشمل المعاملات الضررية أصلاً; لكون نفي الضرر فيها بجعل الحقّ وشمولها لمثلها مستلزم للتخصيص الكثير لو اُخرج، أو للفقه الجديد لو عمل بها فيها.
فعدم الجريان في المعاملة الغبنية، لا لصدق الاقدام حتى يرد الإشكال المزبور، بل لعدم شمول القاعدة لأمثال المقام.
وأمّا على ما اخترناه من عدم دلالة الأخبار على قاعدة جديدة وراء قاعدة الإتلاف وأمثالها فنقول :
أمّا في مسألة المعاملة فـفي صورة الجهل له الخيار لغير قاعدة الضرر مما استدل به لذلك في محلّه، و في صورة العلم لا خيار له إجماعاً.
وأمّا مسألة الجنابة فحرمة الإضرار بالنفس لو لم تثبت فلا إشكال في وجوب الغسل والصحة ولو ثبتت ورُجح الوجوب فكذلك ولو ثبتت ورُجحت الحرمة; لأهمّية دفع المفسدة على جلب المنفعة، فلا يجب ويفسد، إلاّ في موارد العذر.
ولو تساويا وتساقطا فالحكمان غير فعليـين، لكن الصحة بحالها، فافهم.
المصدر: کتاب قاعدة لاضرر و لا ضرار
تقرير أبحاث المُحقّق الاُصُوليّ الكَبيرآية اللّه العُظمى الشيخ ضياء الدين العراقيّ(قدس سره)(1278ـ1361هـ ق)
تأليف الفقيه المحقّق آية اللّه السيّد مرتضى الموسويّ الخلخاليّ (1324 ـ اعتقل 1412هـ .ق)
تحقيق وتعليق سماحة العلامة السيد قاسم الحُسينيّ الجلالي