ظروفُ اللجوءِ إلى الجهادِ وضوابطه تنفي عنفيّتَه
إنّ الأمنَ والاستقرار البشريّين لا يمكن أنْ يتحقّقا إلّا منْ خلال (العدل و القوّة ) معاً، فاستعمال العدل مجرّداً عن القوّة لا ثمرةَ عمليّة فيه فهناك من لا تردعه التربية ولا القانون عن العدوان والطغيان، فيمارس التعدّي والاستغلال فلا يقف أمامه سوى منطق القوّة.
واستخدام القوّة بلا عدل لا خيرَ فيه حيث يحلّ الظلم وانتهاك الحقوق وسلب الحريّات الفرديّة والاجتماعيّة.
من هنا شرّع الإسلام وأقرّ استعمال القوّة في حدود العدل لضمان السلم الإجتماعيّ وحماية حقوق الأفراد وردع العُنْف، وذلك بعد انعدام خيارات الصلح وهذا القسم من الجهاد يسمّى بـ (الجهاد الدفاعيّ).
الجهاد الدفاعيّ
وهو الدفاع عن كيان الإسلام وأراضي المسلمين ونفوسهم وأعراضهم وأموالهم وثقافتهم .
لقد أمر الإسلام باستعمال القوّة ضدّ فئات معيّنة منْ أبناء المجتمع في ضمن الحالات التالية:
1- الدفاع عن النفس، قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ}.
2- الدفاع عن العقيدة، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}.
3- الدفاع عن المعاهدات، قال تعالى: { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ }، نزلت في اعتداء قريش على قبيلة داخلة مع الإسلام في معاهدات دفاع مشترك.
4- درءُ الفتنة، قال تعالى :{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}.
5- ردع المفسدين، قال تعالى:{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ}.
6- تأمين السلام العالميّ ،قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}.
7- ردع المرابين، قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ}.
وهذه الظروف تُعدّ القدر المتيّقن من موارد اللّجوء إلى استعمال القوّة و الجهاد.
قال الشهيد الثاني: ( أمّا الجهاد الذي يخشى فيه على بيضة الإسلام يجب بغير إذن الإمام أو نائبه ).
الجهاد الابتدائيّ
وهو قتال المشركين والكفّار لدعوتهم إلى الإسلام والتوحيد والعدالة،واخماد نار الشرك والوثنية ، فقد إختلف الفقهاء فيه فمنهم من أناطه بالمعصوم كالمحققّ الحليّ، وحتّى بناءً على ثبوته فإنّه لا يقوم به الجيش الإسلاميّ إلّا بعد دعوة الكفّار إلى الإسلام وتوضيح الحقّ لهم بحيث لا تبقى لهم حجّة ولا يكتنف موقفهم أيّ غموض.
مضافاً إلى أنّ الهدف منه إزالة الحاجز من طريق الدعوة إلى الحقّ، وتحطيم عناصر فتن المؤمنين عن دينهم بأساليب مختلفة بحيث تمنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية بحريّة واختيار ، وبذلك يمكن القول بإنّ الجهاد الابتدائيّ داخل ضمن الجهاد الدفاعيّ .
لاقيمة للعقيدة المفروضة
لم يكن الجهاد الابتدائيّ لغرض فرض العقيدة الإسلاميّة على أحد من البشر ، إذْ لا يمكن تصوّر عقيدة مفروضة لأنّ العقيدة هي: ما عُقِد عليه القلب ، من إيمان جازم لا يتطرّق إليه شكّ ولاظنّ لدى المعتقد، ؛ فإذا شابه شي من الظنّ أو الشكّ فلا يسمّى عقيدة،لعدم إنعقاد القلب عليه ، ولايمكن الاكراه على الأمور القلبيّة ، نعم بالإمكان إظهار العقيدة باللسان دون القلب وهذا لاقيمة له في الشريعة الإسلاميّة على الإطلاق لتأكيدها على أنّ العقيدة لابدّ من حصولها من خلال الإرادة الذاتيّة للإنسان كما في قوله تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }.
مضافاً إلى ذلك فإنّ تعاليم الإسلام تنصّ على تركيز التعايش السلميّ مع أتباع الأديان السماويّة الأخرى ، وقد وردت في الآيات والرّوايات والفقه الإسلاميّ بحوث مفصلة في هذا الباب تحت عنوان( أحكام أهل الذمّة) فإذا كان الإسلام يؤيّد فرض العقيدة والإكراه عليها ، ويتوسلّ بالقوّة والسيف من أجل تحقيق أهدافه ، فأيّ معنى إذن لقانون أهل الذمّة والتعايش السلميّ ؟.
من هنا منع الامام السجاد ( عليه السلام ) الجهاد الابتدائي مع السلطة الأموية والعباسية كما في الرواية المعروفة عندما اعترض عليه أحد أقطاب العامة قائلا تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحجج وليونته والله تعلى يقول : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فأجابه ( عليه السلام ) أكمل الآية فقال : ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) فقال ( عليه السلام ) : إذا وجدت من هذه أوصافهم من المجاهدين فحينها لا ندع الجهاد والقتال » .
ويشير الامام السجاد ( عليه السلام ) إلى أن الحروب التي قامت بها الدولة تحت شعار( الفتوحات الاسلامية ) لم تكن شرعية لعدم تحقق الاوصاف التي ذكرتها الاية في اهدافها بل كان الهدف منها كسب الغنائم والاموال واسرالعبيد والجواري وغير ذلك من الاهداف .
ضوابطُ الجهادِ تؤكّدُ عدمَ عنفيّته
يرتكز الجهاد في الإسلام ـ كما نصَّ الفقهاءـ على ضوابط محكمة تصبّ في صالح البشر، فهو لم يُشَرَّع لأجل القتل وإراقة الدماء، وإنّما قنّن لأهداف سامية وراقية تتلخّص في إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض، ودفع العدوان وردع الباطل والإنحراف، ومن هنا أضحى الجهاد رسالةً سماويّةً خالدةً، لها أهدافها وأسسها وقواعدها وضوابطها ، ويتّضح ذلك من خلال الرّواية التالية :
رَوَى عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْعَدَةَ ابْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ × قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ | كَانَ إِذَا بَعَثَ أَمِيراً لَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ (عَزَّ وَ جَلَّ ) فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ ثُمَّ فِي أَصْحَابِهِ عَامَّةً ثُمَّ يَقُولُ: اغْزُ بِسْمِ اللَّهِ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَ لَا تَغْدِرُوا وَ لَا تَغُلُّوا وَ تُمَثِّلُوا وَ لَا تَقْتُلُوا وَلِيداً وَ لَا مُتَبَتِّلًا فِي شَاهِقٍ وَ لَا تُحْرِقُوا النَّخْلَ وَ لَا تُغْرِقُوهُ بِالْمَاءِ وَ لَا تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً وَ لَا تُحْرِقُوا زَرْعاً لِأَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَ لَا تَعْقِرُوا مِنَ الْبَهَائِمِ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِلَّا مَا لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ أَكْلِهِ وَ إِذَا لَقِيتُمْ عَدُوّاً لِلْمُسْلِمِينَ فَادْعُوهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثٍ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكُمْ إِلَيْهَا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَ كُفُّوا عَنْهُمْ. ادْعُوهُمْ إِلَى الإسلام فَإِنْ دَخَلُوا فِيهِ فَاقْبَلُوهُ مِنْهُمْ وَ كُفُّوا عَنْهُمْ . وَادْعُوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ بَعْدَ الإسلام فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَ كُفُّوا عَنْهُمْ وَ إِنْ أَبَوْا أَنْ يُهَاجِرُوا وَ اخْتَارُوا دِيَارَهُمْ وَ أَبَوْا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ أَعْرَابِ الْمُؤْمِنِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ مَا يَجْرِي عَلَى أَعْرَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَ لَا يَجْرِي لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَ لَا فِي الْقِسْمَةِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
فَإِنْ أَبَوْا هَاتَيْنِ فَادْعُوهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صَاغِرُونَ فَإِنْ أَعْطَوُا الْجِزْيَةَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَ كُفَّ عَنْهُمْ .
وَ إِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنِ اللَّهَ (عَزّ َوَجَلَّ )عَلَيْهِمْ وَ جَاهِدْهُمْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَ إِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ عَلَى أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ ) فَلَا تَنْزِلْ لَهُمْ وَ لَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ثُمَّ اقْضِ فِيهِمْ بَعْدُ مَا شِئْتُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ لَمْ تَدْرُوا تُصِيبُوا حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا وَ إِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ فَإِنْ آذَنُوكَ عَلَى أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى ذِمَّةِ اللَّهِ وَ ذِمَّةِ رَسُولِهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ وَ لَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى ذِمَمِكُمْ وَ ذِمَمِ آبَائِكُمْ وَ إِخْوَانِكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَ ذِمَمَ آبَائِكُمْ وَ إِخْوَانِكُمْ كَانَ أَيْسَرَ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَ ذِمَّةَ رَسُولِهِ.
وبهذا أسّس الرسول القواعد الواضحة القياديّة، والسياسيّة، والإداريّة، والإنسانيّة في الحرب التي أرادها وسيلةً لردع الطغاة والمعتدين، ونشر مبادئ السلم والعدل والفضيلة، فاختطّ منهجاً يتجنّب الّلجوء إلى القتال في حال وجود سبيل أخرى تحقّق الأهداف الرساليّة التي بعث من أجلها إلى البشر كافة.
المصدر:کتاب السلم و اللاعنف في الاسلام و امتدادهما في النهضة الحسینیة تألیف سماحة السید قاسم الجلالي